المعضلة الأساسية في مجريات وحيثيات الصراع الدائر حالياً في الساحة المصرية والذي يتولد عنها أزمات متعاقبة ومتدحرجة لا تنتهي، هي في الواقع متمثلة في كون الثورة لم تكتمل، ففي التجارب الثورية عادة ما يتم اجتثاث النظام القديم كليةً بأركانه وجذوره ومؤسساته، ومن ثم بناء نظام جديد يقوم على أسس ورؤى المنتصرين في الثورة.
غير أن هذا الأمر لم يحدث في الحالة المصرية، فما حدث هو عملية اطاحة ببعض رؤوس النظام القديم، الذي بقيت شخوصه ومؤسساته وأجهزته البيروقراطية وشبكات الدعم والمصالح المرتبطة به كما هي لم تمس تقريباً، حيث أخذت في التواري والاختباء انحناءً للعاصفة، عقب مشهد انتصار الثورة المتمثل في تنحي الرئيس المخلوع، بل أن بعضها أخذ في ركوب موجة الثورة تُقيةً أو نفاقاً.
في حين حدثت حالة من الردة الشديدة والتي اخذت تمارسها العديد من القوى الثورية التقليدية والتي كانت جزءاً من مسيرة الثورة ومن صناعتها، وذلك على إثر صعود التيار الاسلامي واستحواذه – ديمقراطياً - على أغلبية الأصوات في كل المراحل الانتخابية والاستفتائية التي جرت، الأمر الذي لم تستطع هذه القوى بحال من الأحوال أن تتجرع عملية التسليم به والاعتراف بنتائجه.
هذه النتيجة قد تكون مفهومة ومقبولة لو تم مناهضتها والاعتراض عليها وفق قواعد اللعبة المتعارف عليها سياسياً وديمقراطياً وأخلاقياً، لكن ما تدحرجت به الأمور بعد ذلك أنتجت حالة عجيبة من التحالف بين هذه القوى الثورية وبين بقايا النظام القديم، التي التقت على أرضيات مشتركة عديدة منها تقاطع المصالح، والتوحد على اسقاط النظام الجديد، وكره ورفض الاسلاميين، مما جعل المشهد أكثر ارتباكاً وعبثية.
هذا المشهد شكل أرضية مناسبة لإعادة استحضار فلول ورموز النظام السابق بشكل أكثر جرأة ووقاحة، وما مشهد المحاكمات الهزلية التي تتابعت في الآونة الأخيرة منا ببعيد، والتي كان آخرها محاكمة المخلوع نفسه، والذي بدا فيها أكثر تعافياً ومعنويةً وتحدياً، وكذلك أنصاره، كما تجلى ذلك في مختلف المجالات والمؤسسات، وعلى رأسها قطاعات القضاء والاعلام والأمن والذي يشكل المال الفاسد سنداً دائماً لها.
القضاء "الشامخ" كما يحلو للبعض أن يسميه بات رأس الحربة في معركة القضاء على الثورة الذي يتصدر لها ويقودها ثلة ممن كانوا صنيعة النظام السابق وارتبطت به مصالحهم، ورأوا في الثورة خطراً محدقاً على نفوذهم وعلى مكتسباتهم وامتيازاتهم غير المحدودة، متسلحين بالحصانات الممنوحة لهم قانوناً، ومن ورائهم جيش من الاعلاميين المسترزقين، ومؤسسة أمنية عاجزة أحياناً ومتواطئة في أغلب الأحيان.
لا شك أن جهاز القضاء كغيرة من أجهزة الدولة أصابه ما أصاب الجهاز الاداري للدولة بكليته من ترهل وفساد، كان طبيعياً ضمن حالة الفساد والافساد التي مورست طوال عقود من قِبَلِ النظام السابق بل والأنظمة التي سبقته، والتي كانت نتيجتها تراجع وضعف الدولة ككل في كافة مناحي الحياة، هذا الأمر استدعى كل الحريصين على مستقبل البلاد ونجاح الثورة بالمناداة بإصلاح القضاء رافعين شعار "إما الثورة على القضاء أو القضاء على الثورة"، لذلك في السياق نفسة وضع المستشار زكريا عبد العزيز رؤيته لإصلاح القضاء تم نشرها في بوابة الأهرام في 18/4.
هذا الكلام يوجب على كافة القوى الثورية التي لاتزال تؤمن بأهداف الثورة وتتطلع لتحقيقها وعلى رأسها القوى الاسلامية والرئيس، بالعمل الجاد لاستكمال مسيرة الثورة حتى نهايتها، والتوحد على اجراء عملية اصلاح شاملة تضع حلولاً ثورية للملفات الأكثر الحاحاً في الساحة المصرية في الوقت الحاضر والمتمثلة في القضاء والاعلام والأمن، والتي باتت ثلاثتها تشكل العائق والمهدد الأبرز في سبيل استكمال مسيرة الثورة وانجاز أهدافها التي قامت من أجلها.
الرئيس تحديداً هو الوحيد الذي يتمتع في اللحظة الراهنة بعدة شرعيات مجتمعة هي الشرعية الثورية والشرعية الشعبية والشرعية القانونية، والتي يفتقد خصومه السياسيين لمعظمها، فعليه أن يستثمر هذه الشرعيات قبل أن تتآكل بفعل الثورة المضادة التي تحركها وتمولها أجهزة الدولة العميقة بتحالفاتها الداخلية والخارجية، فالمطلوب من الرئيس مرسي اتخاذ اجراءات حاسمة وحكيمة ومدروسة في آن معاً، بعد التوافق عليها من مختلف القوى الداعمة للمسار الثوري، وعدم البقاء الى الأبد في خندق الدفاع عن النفس أمام هجمات الخصوم الذين لن يرضوا عن سياسته بأي حال من الأحوال.