في ذكرى ال15 للرحيل..السلوك القيادي عند الياسين (دراسة) .

news-details
الأخبار


أحمد الياسين .. ليس مجرد اسم عابر.. بل جذر متأصل في أعماق التاريخ الفلسطيني.. إنه نموذج فريد صنع التاريخ، وعنوان ضخم ضم آلافاً من الأبطال الذين عرفتهم ساحالجهاد في فلسطين.. كان نموذجاً صلباً و رمزاً للخير والجهاد ، الرصيد التاريخي لشعبنا في التحدي الشامخ كي تبقى الأمة مرفوعة الهامة، لقن الظالمين دروساً قاسية في ساحات التحدي في فلسطين .. إنه جزء من هذه الأرض.. منها كان نبته، ومن أجلها كان عطاؤه، وفيها كان استشهاده .. وهو حلقة في سلسلة كبيرة ، وهو زلزال صرخ في وجه الاحتلال الغاشم (لا) فكان البركان.. وهو من دفع ثمناً دمه ودموعه وآلامه.. وهو قد أثبت أن الكف يمكن أن ينتصر على المخرز، وأن الصبر الجميل والجهاد الطويل يملك التصدي لقوى الباطل الجامحـــة، وهو النموذج الأروع والقدوة الأمثل في العطاء والتضحية التي حفرت لشعبنا مكانته اللائقة ومنزلته السامية .. يستحيل على الذاكرة أن تطمـــــس النور الساطع من هذا الإمام الشهيد الخالد، وأنوار الشهادة والشهداء تعبق بذكره وترفع اسمه. لقد استحق الرجل عن جدارة أن يصبح ،بشخصه الفريد ومسيرته الباسلة ، حقلا للعديد من الدراسات المعرفية المتنوعة (التاريخية، السياسية، الدعوية، التربوية)، ومن ثم فنحن لسنا بصدد رجل عادي، وإنما حالة من الحالات الفكرية الثرية التي يستند فكرها إلى عدد من المرتكزات، وتستحق دراسة نوعية نحاول من خلالها تشريح الحالة الفكرية للشيخ الشهيد وإسهاماته السياسية والدعوية والتربوية والاجتماعية ،مدعمة بالعديد من الوسائل العملية التي تعتمد على مقابلات مع العديد من الشخصيات التي رافقت حياة الشيخ الشهيد ، وموثقة من خلال العديد من المراجع المتنوعة التي تناولت فكر الشهيد الراحل أحمد ياسين. إطلالة تاريخية كاريزما قيادية مدخل لظاهرة الياسين مراحل تحرك الإمام الياسين صفات قيادية تحديد منطلقات العمل حكمة الخطاب السياسي خلاصة التجربة المراجع إطلالة تاريخية كانت البداية الرائدة في انطلاق حركة المقاومة الإسلامية "حماس" وكتائبها على يد مؤسسها الإمام أحمد ياسين المقعد الذي يهابه الاحتلال ... ياسين رجل القيادة والقرار الاستراتيجي الذي ولد في قرية الجورة ، "قضاء المجدل" الفلسطينية عام 1936م ، التحق بمدرسة الجورة الابتدائية ، ثم أكمل المرحلة الإعدادية عام 1955م ، وفي المدرسة الثانوية استرعت جماعة الإخوان المسلمين نظر الإمام أحمد ياسين ، فقرر في عام 1955م إعطاء البيعة للجماعة . وفي عام 1960م أصيب ياسين بالشلل بعد أدائه لإحدى القفزات الرياضية الصعبة، ورغم ذلك عمل مدرساً ، وكان لبقاً ، ذكياً في دعوته ، وتعرض للاعتقال أكثر من مرة ، أولها في 1965م ، إبان الضربة القاسية التي تعرض لها الإخوان في مصر وقطاع غزة . وفي العام 1968م اختير الإمام أحمد ياسين لقيادة الحركة في فلسطين ، فبدأ ببناء جسم الحركة ، فأسس "الجمعية الإسلامية" ثم "المجمع الإسلامي" ، وبدأ التفكير للعمل العسكري ، فأسس تنظيماً عسكرياً وزوده بالأسلحة ، فعاجلته السلطات الإسرائيلية بالاعتقال في عام 1982م ، وحكم عليه بالسجن لمدة خمسة عشرعاماً ، ثم ما لبث أن خرج من السجن في صفقة تبادل أسرى مع منظمة أحمد جبريل في العام 1984م . وكان للشيخ اليد العليا في تفجير الانتفاضة الأولى وإشعال فتيلها ، فأسس مع نفر من إخوانه حركة المقاومة الإسلامية "حماس" بعد خمسة أيام من بدء الانتفاضة ، في 14/12/1987 ، واعتقل مجددا  في17/5/1989 في الضربة التي وجهت لحماس في قطاع غزة على يد جيش الاحتلال الإسرائيلي ، وحكم عليه بالسجن المؤبد ، إضافة إلى خمسة عشر عاماً . وقد تم الإفراج عنه في 1/10/1997م ، وتوجه إلى الأردن للعلاج في إطار صفقة الإفراج عن عملاء الموساد الذين حاولوا اغتيال خالد مشعل ، وعاد إلى قطاع غزة في اليوم التاريخي المشهود 6/10/1997م قائلاً: إن "حماس" لن تلتزم أي وقف لإطلاق النار مع إسرائيل قبل زوال الاحتلال ، وداعياً إلى ضرورة الوحدة الوطنية ورص الصفوف ، واستقبله عشرات الآلاف من جماهير فلسطين . وأعاد الإمام الياسين البناء حتى كانت انتفاضة الأقصى 28/9/2000م ليتألق مجدداً ويرفع راية العز والجهاد ويمتلئ قلب شارون غيظاً وكمداً ويسعى إلي اغتيال الإمام القعيد في  سبتمبر 2003م وتطيش ضربة الحقد ، ثم يأتي يوم الزفاف المشهود للشيخ الشهيد بعد صلاة فجر يوم 22/3/2004م ليلقى الله بعد أن حمل الرسالة وأدى الأمانة (عدوان، 1989. الكتلة الإسلامية، 1992. عبدالله، 1998). كاريزما قيادية ليس غريباً أن يضفي الله من الهيبة على رجل مقعد ما يرفع مكانته بين الخلق، ويدفع الشباب أن يلتفوا حوله، ويجعل المحتلين والمتخاذلين معاً يحسبون له ألف حساب، ولو كان رهين المحبسين في العصر الحديث بإعاقته الجسدية الدائمة، وزنزانته الموصدة لفترات طويلة من سني قيادته، أو الإقامة الجبرية التي فرضت عليه مرات عدة ولو على امتداد ساحة السجن الكبير "فلسطين السلبية" .. وليس غريباً أن تتابعه عدسات وكالات الأنباء العالمية إذا همس بكلمة أو أومأ بإشارة ، لأنه صاحب الرأي الحصيف والقرار النافذ والكلمة المسموعة. عرف العالم أحمد ياسين القيادة والرأي والقرار والكلمة، حين تلقاه لا تصدق عينيك، ولكن يصدق قلبك ووجدانك وتتذكر قول الشاعر: ترى الرجل النحيل فتزدريه             وفي أثوابـــه أسد هصـــــور غير أنك ما تزدريه ، بل يكبر في عينك ويملأ جوانحك إعجاباً وتقديراً ومحبة ، وتتذكر الأحنف بن قيس سيد "بني تميم" الذي كان نحيل الجسد قصير القامة وفيه يقول القائل: إذا امتشق سيفه امتشق خلفه مائة ألف سيف لا يدري أصحابها لم امتشقوها ، ومع الفارق بين بني تميم في الجاهلية الجهلاء والقبلية العمياء وبين حماس في إيمانها ووعيها (عبدالله، 1998). الإمام أحمد ياسين الرجل المقعد الذي أرعب الظالميــن وحيّر إسرائيل. هذه الكتلة من اللحم التي لا تقوم على عظام، وهذا الجسد الذي ماتت معظم أعضاؤه إلا القلب ينبض بالإيمان، والعقل يفيض بالعمق والتفكير واللسان بحركة الوجدان، في عينيه بريق تحس أنه بريق نفّاذ أعمق من أشعة إكس التي توصل العلماء بها إلى اختراق خبايا جسد الإنسان لتشخيص ما أصابه ، وأحمد ياسين في عينيه بريق نفّاذ يشخص روح الإنسان في أعماقه بشفافية المسلم الذي يرى بنور الله وفراسة المؤمن التي لا تخيب . الإمام الشهيد عرف بين إخوانه بالتخطيط ولم يعرف بالصخب، وعرف ببعد النظر دون الالتفات للتهريج أو اللغط والخصومة وعرف بالتواضع في مركزه القيادي المرموق، ولم يعرف بالاستعلاء، وعرفه إخوانه بصدق التوجه إلى الله وغرس البذور في حقل الله المثمر الذي تنبت السنبلة فيه سبع سنابل بدلا من التبجح ووضع البذور في حقول الخلق المعرضة للبوار، ومن هنا ظل الرجل شامخاً لا يطأطىء رأسه، راسخاً لا يتزعزع مثل رواسي الجبال(العظم، 1988. الكتلة الإسلامية، 1992. عبدالله، 1998) خاطبه الشاعر قائلاً : عينك تبدو للعيان كأنها حمم تقاذفها اللهيب                                         والصوت رغم ذبوله وجفت له كل القلوب والجسم يفخر أنه حمل الضمير الحي فـي ذاك الشهيد                                      والنور يبدو في محيا الإمام دفاقاً محني بالورود من بعد إفلاس وإحباط أعدت الشعب للمجد التليد                               وصنعت جنداً حطموا أسطورة الجندي ذاك ابن القرود وزرعت في قلب الأحبة زهرة الإيمان                                 تروي بالدم المعطاء في كل الدروب يا أحمد الياسين يا روحاً تمزج في شرايين الشعوب                         عذراً إذا عجز المداد لأن يحدث حبك المكنون في كل القلوب هكذا كان الإمام أحمد الياسين .. البداية التي انطلق من رحمها "ثوار الحجارة" ، فزلزلوا عرش الطواغيت وأعادوا بناء المعادلة. مدخل لظاهرة الياسين الشهيد الإمام أحمد الياسين ظاهرة ضخمة بكل أبعادها، فهي ضخمة بحيثيات نشأتها التاريخية، وبعطاءاتها الفكرية الثقافية، وهي كذلك متميزة في تصدّيها السياسي والعسكري. لقد كانت من الضخامة بمكان استطاعت معه أن تملأ الفراغ المرجعي للحركات الإسلامية الناتج من التقاعسات المتراكمة من جهة، ومن الهجمة الشرسة المخططة التي أحكم النظام العالمي الجديد تنفيذ فصولها من جهة أخرى. إنّ مواجهة الشهيد الإمام الياسين للإحتلال ومعاوله القاتلة الهادمة وقد مضى على عمله أكثر من خمسة عقود دامية، تفنّن فيها الإحتلال بكل ما يستطيع من أجل تدمير الشعب الفلسطيني، تقع في مصاف الأحداث التاريخية المتميزة في مسيرة النضال الفلسطيني من أجل إقامة النظام الإنساني الإسلامي. لقد ملأ الإمام الياسين الفراغ وحوّل المأساة التي كانت تعيشها القضية الى مبادرة عطاء ضخمة أعادت الى الأذهان أيّام الله الكبرى يوم كان التصدي للغاصب الظالم يتشرف براية التوحيد والالتفاف الجماهيري الملتزم الزاحف حولها. وهكذا اختلت الموازين وانبعث العملاق من قمقمه بعدما ظنّ الجلاّد أنّه قد أحكم سجنه ولا أمل في عودته ليملأ الدنيا من وجوده الكبير فيقود الياسين الطلائع المجاهدة والجماهير المؤمنة نحو الفجر الصادق بقيام المجتمع الإسلامي. مراحل تحرك الإمام الياسين وفي هذا البحث سنحاول أن نلقي ضوءاً على جوانب من نظريته في العمل معتمدين على ما قاله أو فعله في مختلف مراحل حياته، منطلقين من أن فهم المراحل اللاحقة منها لا يمكن أن يتم بصورة دقيقة دون الرجوع إلى المراحل السابقة. فلم يكن الرجل ينطلق من فراغ، ولم يكن ساذجاً في تصرفاته، بل إن الإنصاف يقتضي منّا أن ننظر بعين من الإجلال والإكبار لمدرسته النضالية في شقيها النظري والعملي، وذلك للتكامل والشمولية التي تظللها. منذ أكثر من خمسة عقود كان الإمام الياسين مواكباً لمسيرة الحركة الإسلامية وحركة التغيير العالمي، فكان يتفاعل معها بوعي كامل ومشاركة جادة عبرت عن نفسها في كل مقطع زمني متميز بطريقة مناسبة ومدركة لمعطيات المرحلة وملابساتها، ومن خلال رصدنا لمشاركته في مسيرة التحرك الإسلامي الواعي في فلسطين، يمكننا تقسيمها الى أربعة مقاطع ذات سمات متميزة، هي: 1ـ أسلوب القيادة قبل الانتفاضة (مرحلة الدعوة والتثقيف): وكان تحرك الياسين في هذه المرحلة دعوياً عاماً جاب المساجد والمؤسسات والأندية والشوارع داعياً إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة مؤسساً للعمل الخيري عبر إنشاء مؤسسات مثل الجمعية الإسلامية والمجمع الإسلامي. 2ـ أسلوب القيادة قبل الانتفاضة (مرحلة الانتقاء والتأسيس): التي اتسمت بالرصد الدقيق للأحداث والمشاركة الحذرة، واستمرت هذه المرحلة منذ أواخر السبعينات واستمرت الى مرحلة العمل التنظيمي والسياسي في مطلع الثمانينات حيث اعتقل الإمام للمرة الأولى مع الزمرة الأولى من الرعيل الأول الذي يمثل المؤسس لحركة المقاومة الإسلامية وإن لم تحمل ذات الاسم في تلك المرحلة. لقد كان للشيخ الياسين تصوراً واضحاً للعمل السياسي والعسكري في تلك المرحلة وإن تبلور ذلك لاحقاً مع إنطلاق الانتفاضة وكان له بها إسهام يتناسب مع هذا التصور. 3ـ أسلوب القيادة أثناء الانتفاضة: اتسمت هذه المرحلة بالتصدي القيادي، مستفيداً من الظروف التي كانت تمرّ بها القضية الفلسطينية لإعادة بناء التحرك الإسلامي على أسس رصينة، بعدما أوغل الإحتلال في تخريب ساحات ومفاصل هذا التحرك. لقد اتسمت هذه المرحلة من نشاط الإمام الياسين بأنها سعت لسد الفراغ القيادي من خلال التفاعل مع الواقع بكل أبعاده المثبطة أو المشجعة. ولم تنته هذه المرحلة باعتقال الإمام فقد ترك قاعدة تنظيمية رصينة بعد توفر مستلزمات الديمومة والإستمرار التي وفرها الإمام. 4- أسلوب القيادة بعد الإفراج و أثناء انتفاضة الأقصى: منذ اليوم الأول الذي خرج فيه الإمام من المعتقل بعد صفقة مشعل الشهيرة كان أكثر عزماً وأشد مراساً واستعداداً لمرحلة الصراع والصدام القادمة مع الاحتلال وذلك رغم كل الظروف التي كانت تعيشها حماس عقب ضربة 1996 . وقد ختم الإمام الياسين تلك المرحلة بانتفاضة أشد بأساً وأكثر إيلاماً لإسرائيل ودفعت حماس الثمن الأبهظ عبر استشهاد خيرة الرعيل الأول من الجيل المؤسس،وعلى رأسهم الإمام الشهيد حيث ختم الياسين المرحلة بالشهادة. ومن خلال المعايشة أو المتابعة لمسيرة الإمام الياسين يمكن القول إن هناك عملاً تراكمياً بين هذه المراحل تبنى بها كل مرحلة على سابقتها. كما أنّ هناك ثمة تداخلاً بين هذه المراحل، فالممارسة التنظيرية كانت مستمرة على طول الخط، كما أنّ التنظيم كأسلوب من أساليب العمل ظلت تلف الكثير من ممارسات الإمام رحمه الله. والعزيمة في كل مرحلة كانت مدرسة الإمام من أجل الانطلاق للمرحلة الأكثر تقدماً في عملية الصراع المتكامل في شتى الميادين مع الإحتلال. ومضافاً لهذه وتلك فإنّ عملية تطوير النظرية والممارسة كانت مواكبة للمتغيرات والأحداث الطارئة، مما يضفي نوعاً من المرونة في إنزال الأهداف، ويمكن القيادة من المناورة عند الضرورة.   صفات قيادية إرساء المنهج الشهيد الياسين منذ أن بدأ تحركه الى آخر يوم من أيام حياته كان ينطلق من فهمه أنّ الإسلام هو الرسالة التي ينبغي أن تسود الحياة.  هذه المنطلقات كانت الأسس التي اقام عليها الإمام الياسين معالم نظريته في التحرك، وهو ما مارسه منذ الستينيات، كما بيّنه في خطبه وتوجيهاته. أساسيات الانطلاق، أو لنقل إن أساسيات نظرية العمل السياسي عند الإمام الشهيد الياسين رحمه الله كانت واضحة منذ البداية. فمنذ شبابه كانت المنطلقات واضحة لديه، وكانت تلك المنطلقات هي الأسس الصلبة التي أقام عليها تصوراته للسياسة والمسيرة والعمل الإسلامي. ولاشك ان هذا النداء الصادر من أعماق النفس، هو ألصق النداءات بالإنسان وأبلغها أثراً في نفسه، وإنّ الوصول الى الحق عن هذا الطريق لهو أيسر الطرق وأسهلها. لذا فقد كان الاعتراف بالإسلام وبعقائده سهلاً يسيراً وموافقاً للبداهة والفطرة، وللبرهان العقلي الصحيح. والنظام الإسلامي هو النظام الأمثل الخالد، لأنه أحسن النظم البشرية وأصلحها للتطبيق. ودليل ذلك أننا نرى أنّ الفكر الحديث لم يسبق الإسلام بنظرية صحيحة صالحة للبقاء.. وبخاصة في مجالات التقنين والتشريع. وإنطلاقاً من أنّ الإسلام سنّ مبدأ التكافل الاجتماعي وحثّ على معونة الفقراء وعتق الأرقاء. وحارب الاحتكار وتضخم الثروة. في زمان لم يكن يفكر بشيء من ذلك أحد إنطلق الإمام ليؤسس المؤسسات الخيرية التي ما تزال أياديها بيضاء وجهدها الأبرز في خدمة المجتمع الفلسطيني ودعمه بأسباب البقاء والمقاومة. والمنهج التربوي في الإسلام، منهج واسع وعميق. يتكفل الفرد بالعناية والرعاية، منذ ولادته، ويسير معه في جميع أعماله وأقواله الى آخر لحظة من حياته. ومن هنا اهتم الإمام بإرساء قواعد العمل التربوي عبر المساجد ومؤسسات تعليمية وتربوية رائدة مثل الجامعة الإسلامية ومدارس الأرقم وغيرها. بل إنه قد لاحظ بثاقب نظره أن التربية من خلال الحياة غير كافية لأن تُنشئ فرداً صالحاً بمعنى الكلمة، وكما يريده الإسلام أن يكون، لذا نراه قد التفت الى الوالدين فأمرهما بإصلاح أنفسهما وتهذيب سلوكهما لكي لا يرضعا ولدهما الصفات الخبيثة والأخلاق الدنيئة، بل ليربيا جيلاً صالحاً يسعى في خير مجتمعه وأمته، يسطع في ربوعه ضوء الإسلام وتصعد البشرية بجهوده في سلالم الكمال. الوعي والحكمة: لقد قام الشهيد الإمام الياسين أحسن قيام بأداء دور القائد في فلسطين الجريحة، فالتفّت الملايين من الناس حوله وآمنت بخطه واتبعت نهجه، واستشهد هو تطبيقاً لمبادئه، وجماهيره ماتزال تواصل طريقه في فلسطين الشهادة. وآمنت به الطلائع الواعية من ذوي البصائر وأصحاب العقيدة الإسلامية الراسخة، ولا عجب في ذلك، فقد كان عهدهم بهذا المعلم الشهيد بعيداً فلطالما تثقفوا في مدرسته وتدارسوا روائعه وتعلّموا منهج الإسلام العظيم على يديه.لقد كان الإمام الياسين واعياً لما يقوم به، وذكياً في تصرفاته ومواقفه، وحكيماً بعيداً عن الانفعال أو التأثر بعناصر غير لصيقة بمشروعه الإسلامي. وكان الشهيد الإمام الياسين شجاعاً بطلاً غير متردد وغير هيّاب من الأعداء. وكان يخفي ما يريد إخفاءه كما كان يظهر ما يريد إظهاره بإقدام وشجاعة فائقة حتى لو كلفه ذلك حياته. كان يبذل كل جهده ووقته وكيانه من أجل الإنسان المسلم بصورة عامة والإنسان الفلسطيني بصورة خاصة. لذلك أحبه الناس بعقولهم وقلوبهم وكل جوارحهم. الإرادة لقد أدركت الصهيونية العالمية وأميركا وعملاؤها خطورة مشروع الإمام أحمد الياسين التغييري فكان قرار تصفيته. لقد كانت معركة الإمام الياسين مع الإحتلال في فلسطين ومن خلفه الصهيونية العالمية والقوى الاستعمارية معركة بقاء أو موت. والشعب الفلسطيني من أعرق شعوب الأرض وأكثرها مواصلة لمسيرة الكفاح، لذلك فالإمام الياسين «رحمه الله» مستمر في قيادته كما هو شأن كل القيادات التاريخية للشعب الفلسطيني وهي في حقيقتها معركة المنهج ونظرية العمل السياسي والاجتماعي من أجل خدمة الإنسان وإقامة المعطل من شرع اللّه. وعلى كل حال، فالمعركة عميقة في جانبيها النظري والتطبيقي، ومن هنا فإنّ من أهم معالم إدامة الصراع مع الظلم هو استخلاص نظريه في العمل الإسلامي بأشكاله المتنوعة  الثقافي والاجتماعي والسياسي والعسكري. خطيب مفوه والخطابة واحدة من المفردات المهمة في نظرية العمل الدعوي عند الإمام الياسين في جانبها العملي هي إصلاح المنبر وتفعيله كمؤسسة تأثير وترشيد بين صفوف الأمة. فالخطيب يمكنه أن يتحرك على ساحات واسعة تتوسط مختلف قطاعات الأمة. فإذا أصلح طرح الخطيب وفق منظور ناضج فإن الناتج هو أمة من الإسلاميين الواعين المؤمنين الذين يحملون الفكر النقي والتوجه السليم. ومن هنا اهتم الإمام الياسين في أن يكون خطيباً وأن يعد الخطباء. إستغلال الفرص كان الإمام الشهيد يتحرك بقدر الإمكان مع وجود الفرص السانحة، آخذاً بنظر الاعتبار الضغوط التي تمارس ضده للتقليل من نشاطه وإصلاحه وتأثير ذلك على الاحتياجات الكبرى للمجتمع. وكانت دائرة التحرك تتسع لتشمل قطاعات أوسع من المجتمع متناسبة مع درجة ارتفاع الحاجة. المعادلة كما يراها الإمام الياسين هي ان نشاط الدعوة يتناسب كثرة أو قلة مع همة القائمين عليها. ومن هنا فإن موقف القيادات العاملة والعناصر المجاهدة كانت تتأثر بدورها بهذه المعادلة. فكانت حركتها تتصاعد عند تصاعد حركة القيادة. مجاهد الصف الأول وأمّا الجهاد فقد (فضّل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً) وأعطى المجاهد درجة من الكمال والفضيلة لا يستحقها القاعد المتخاذل المتواكل المسوف لأعماله والمتباطئ عن تعاليم دينه القويم. والجهاد هو التفاني بجد وإخلاص في إنجاز العمل الذي أوكله الإسلام الى الفرد ليقوم به، فهو باب واسع من الأعمال تنتظم جميع الفعاليات الإسلامية الخيرة وليس مختصاً بحمل السلاح في سبيل الدفاع عن الإسلام كما قد يبدو لأول وهلة. فالجهاد يشمل كل من وجد ضعيفاً ينوء بثقل الزمان فأسبغ عليه شيئاً من الرحمة والإحسان، ومن وجد فقيراً ينام الليل ولم يدخل جوفه الطعام منذ أيام فأعطاه شيئاً يسد رمقه، ومن وجد يتيماً قد قذفته داره الى قارعة الطريق فآواه وأشبعه وألبسه وأحسن تربيته، ومن وجد أخاه المؤمن مضطراً الى امر من أمور الحياة وهو متمكن من إعانته، فأعانه على تحمل مشاق حياته، ومن شعر بأن الله الذي خلقه من بعد عدم وأنعم عليه من بعد فقر وأسعده من بعد بؤس أهل للعبادة والدعاء فتقرب اليه ودعاه وأخلص في عبادته، ومن عرف ان الله عز وجل قد أرشده الى خيره وصلاحه وفرض عليه بعض الواجبات فقام بها بأمانة وإخلاص. وذروة سنام الإسلام الجهاد الذي خصه الرسول صلى الله عليه وسلم والذي مارسه الإمام الشهيد الياسين في مراحل حياته حتى ختم الله له بالشهادة (نحسبه كذلك ولا نزكيه على الله).  وهكذا كان الإمام الشهيد رحمه الله ما ترك باباً للجهاد إلا وطرقه. وعلى صعيد العمل المسلح، فإن تصور الإمام الياسين للثورة من خلال فهمه لحركة القيادة والعناصر ومدى استعدادها وقد وجد من القيادة الملازمة والجند استعداداً مطلقاً للتضحية أثلج صدره وأيقن أن الثمن باهظ لكن الجميع مستعد لدفع الثمن بنفس راضية. والإمام الياسين كان يسعى إلى إثبات الحق لأصحابه وإيلام الباطل متجسداً بالإحتلال وهزيمته على كل الصعد مع المحافظة التامة على ديمومة الصراع وإبقاء جذوة الجهاد مستعرة وقد كان. القيادة عنوان التضحية من أهم معالم السلوك القيادي للشيخ الشهيد الياسين هو إيمانه بدور القيادة المركزي في النجاح في قيادة الأمة، وإيمانه بنظرية التضحية التي تجسدها القيادة أولاً لتمثل القدوة. وعلى صعيده الشخصي، فإنه قد مثل القدوة الحسنة في كل مراحل جهاده عايش المحن بكل ألوانها مع إخوانه وتلاميده. إن طبيعة فهم الإمام الياسين لعمل وحركة القيادة من أهل السبق كانت مصدراً مهماً لبلورة نظريته في العمل الإسلامي، وقد انعكس ذلك على مجمل تحركه اللاحق. قد لا يدرك أهمية هذا العمل العظيم من لم يعاصر أو يعايش تلك الظروف والأوضاع القاسية إلا ان الحاضر خير شاهد على أهمية ما قام به الإمام الشهيد وما بذله من جهود جبارة في التضحية والفداء وبذل النفس من أجل الأهداف بحيث احتلت حيزاً مهماً في شخصيته. ففي الوقت الذي يمارس الإمام أعلى درجات الحذر نراه ينظر لمسألة التضحية في سبيل الله وفي سبيل إقامة حكمه منطلقاً أساساً لبناء المستقبل الواعد. التمحيص والإبتلاء ومن هدا المنطلق فإن التمحيص والإبتلاء مرتكز آخر من المرتكزات النظرية في التحرك عند الإمام أحمد الياسين. فهو يعتقد أنّ الأمم لكي تتكامل في مسيرها ينبغي لها أن تمر بعملية تمحيص، وأن الأفراد سيمرون ضمن ذلك بعملية تمحيص. ومن هنا، فإن ما تمرّ به الأمة الإسلامية الآن عموماً، وأبناء فلسطين خصوصاً، هو حسب فهم الياسين عملية تمحيص في أحد جوانبه. ومن هنا فالمعاناة على مرارتها تساهم بشكل مباشر أو غير مباشر بناء الأمة. ويتم ذلك عن طريق ما يسمى بـ (قانون الترابط بين الأجيال)، فإنّ كل جيل سابق يوصل ما يحمله من مستوى فكري وثقافي الى الجيل الذي يليه. ويكون على الجيل الآخر أن يأخذ بهذا المستوى قدماً الى الأمام. ثم أنّه يعطي نتائجه الى الجيل الذي بعده وهكذا.. وكذلك الحال بالنسبة الى نتائج التمحيص، فإنّ كل جيل يوصل الى الجيل الذي يليه، ما يحمله من مستوى في الإيمان والإخلاص.. فيصبح الجيل الجديد، قد وصل الى نفس الدرجة تقريباً  من التمحيص التي وصلها الجيل السابق. ثم أنّ الجيل الآخر بدوره سيمرّ بتجارب وسيقوم بأعمال معينة وسيصادف ظروف الظلم والإغراء، فيتقدم في سلّم التمحيص درجة أخرى، وهكذا. وبقانون تلازم الأجيال، سيأتي على الأمة زمان، يكون الجيل الذي فيها، قد حقق التمحيص الإلهي فيه نتيجته المطلوبة. حيث ينقسم المجتمع الى قسمين منفصلين: الى من فشل في التمحيص فاختار طريق الضلال محضاً، والى من نجح فيه فاختار طريق الهداية والإخلاص محضاً. وبوجود هذه المجموعة يتحقق شرط الإنتصار. ومن مستلزمات النجاح في التمحيص، الالتزام بالتعاليم الإسلامية الحقة. ويحذرالإمام الياسين من انجراف الفرد المسلم مع التيارات المعادية للإسلام واتباع عقائدها وأحكامها. فالمطلوب إسلامياً هو متابعة الرسول القدوة. تحديد منطلقات العمل ومن هنا بدأ الإمام الياسين، وانطلاقاً من وعيه وإلمامه في العمل بتصعيد موقف المواجهة مع الاحتلال، و الأسباب التي كانت تقف خلف ذلك أمور نذكر منها: 1 ـ إن الإمام استطاع أن يعيد للتحرك الإسلامي في فلسطين حيويته وفاعليته وتنظيمه على أسس قوية وعميقة. ومن مظاهر ذلك: أ ـ بناء شبكة عمل نشطة في مختلف أنحاء فلسطين. ب ـ إرساء قواعد المؤسسات الإسلامية. ج ـ إيجاد الصلات مع العناصر المتحركة من أبناء الحركة. د ـ تطوير وبناء عناصر جديدة وكسبها لصف التحرك الإسلامي. 2 ـ استطاع الإمام إيجاد جو إسلامي شعبي عارم يؤيد تحركه ويلتزم بتوجيهاته من خلال: أ ـ صلاة الجمعة. ب ـ المسيرات. ج ـ المواظبة على تثقيف الناس. 3 ـ إيجاد صلات حقيقية مع قطاعات الشعب المختلفة بصورة أصبح معها الإمام أحمد الياسين الرمز القيادي والديني الأول في المجتمع ودلك من خلال مؤسسات العمل الإجتماعي ومجلس القضاء الخاص بالشيخ والمؤسسات التربوية والمنابر الإعلامية واللقاءات اليومية في المساجد. فضلاً عن بنائه لجسور الثقة والمحبة والصلة مع كافة الأطر والفصائل. لقد عرف المجتمع الفلسطيني الإمام الياسين واعترف به قائداً جماهيرياً متواصلاً معه ومعايشاً له في الضراء والضراء، باعتبار ندرة لحظات السراء في فترة جهاده. 4 ـالإمام الياسين بعد ذلك تمكن من أن يمارس كل الأساليب السرية والعلنية والذكية تحت عناوين مختلفة للوصول إلى الغايات الكبرى. وقد أثبت الإمام في هذه المرحلة أيضاً، أصالته القيادية. فبمقدار نجاحه الواعي بفن استعمال الأساليب العلنية في العمل الدعوي و السياسي والسرية في العمل الأمني والعسكري، فإنه كان ناجحاً وواعياً للقيام بدوره في مرحلة الصدام والتصدي. وانطلاقاً من فهمه أن تثبيت المكتسبات التي وصل إليها التحرك الإسلامي في فلسطين، لا يمكن أن يتم الحفاظ عليها إلا من خلال موقف الفرز الواضح. ولم يكن ذلك إلا بالإصرار في موقفه ضد إرادة السلطة في فلسطين في مرحلة معينة مع الحرص على عدم الوصول إلى نقطة اللاعودة أو إهدار الدم الفلسطيني. حكمة الخطاب السياسي كان للشيخ الشهيد أطروحة كاملة ناضجة في التحرك الإسلامي السياسي في ظل الإحتلال الظالم وهو ما دوّنه سلوكاً في حركته «حماس». ونحن مطالبون بدراسة فكر ونظريات وتوجيهات الإمام الياسين فإنها مصابيح في طريق العاملين. لم أكن من الذين يعرفون الإمام الياسين عن قرب، لكن كنت ألمس عبقريته الفذة، والتي تجلت أكثر ما تجلت في مستوى خطابه السياسي، الذي لا يتوقع أن يصدر من رجل لايتحرك فيه إلا رأسه ولسانه. إنه وإن كان أشل الجسد، فروحه وعقله في قمة الانطلاق والحيوية والعبقرية. وقد كنت متتبعاً تصريحاته، وحواراته، فتلمست الحكمة وبعد النظر وسعة الأفق في خطابه السياسي. ويجدر القراءة التحليلية المتأنية للخطاب السياسي الياسيني وللأسف حتى الكتابات التي كتبت بعد استشهاده بقيت للأسف رثائية، لهذا من الجدير الدراسة والتحليل بعمق وروية لهدا السلوك، ويكفي أن تحاول التننبيه إلى أهمية دراسة هذا الجزء من عبقرية رجل قضى نحبه وما بدل تبديلا. فمن ملامح خطابه السياسي في مجال رسم الأسس والمبادئ أنه يوظف أصالة الدين، وحداثة السياسة، لصوغ خطاب سياسي إسلامي أصيل وحديث. إن أحمد ياسين ليسا شيخا تقليديا لا يجيد إلا لعن ساس يسوس وما صدر عنهما من سياسة، كما أنه ليس سياسيا عاديا يخبط في عالم السياسة، وهو يظن أنه أهدى من كل الساسة سبيلا. إن أحمد ياسين شيخ دين، لكنه سياسي بارع ، كما أنه سياسي بارع يفقه في الدين كثيرا . وإذا كانت حماس حركة تحرر عقائدية، فإن الخطاب السياسي الذي رسمه مؤسسها فك إشكالية توظيف المنطلقات العقائدية في الخطاب السياسي مع التمييز بين مطلق هذه المنطلقات، ونسبية العمل السياسي. قدم أحمد ياسين نموذجا رائعا في استحضار البعد العالمي للخطاب والنضال السياسي في عصر يسمى "عصر العولمة". فقد كنت تراه يخاطب واشنطن ولندن وباريس وبرلين كما يخاطب جاكرتا وإسلام اباد وطهران ويخاطب ساوباولو وجوهانسبورغ وطوكيو كما يخاطب الرياض والقاهرة وبغداد والجزائر من على مقعده المتحرك في حي الصبرة في غزة . لقد كان خطابه السياسي يحرص على استمالة الرأي العالمي إلى حقه المشروع في المقاومة بكل الحجج والبراهين، من الأديان والشرائع ، وأحداث التاريخ ، ومعاناة الفلسطينيين من الصهاينة ..إلخ . كما أنك لا تكاد تسمع من على لسان ياسين تصريحات نارية انطلقت من القلب ولم تمر على العقل. ويزداد حرص ياسين على ذلك إذا كان في محاورة مع الإعلام الأجنبي. والإمام في هذا يهمس في أذن كل صاحب حق مشروعاً مهضوماً، إنه لا يكفي أن تكون صاحب حق ، بل عليك أن تعرف كيف تدافع عن حقك دون أن تخسر ضمائر الشعوب العالمية في الوقوف إلى جنبك حتى لو وقف قادتها ضدك . إن إسرائيل تنفق المليارات من أجل تحسين صورتها أمام العالم ، ولكن أحمد ياسين بخطابه السياسي ساهم بقوة في فضح الصورة القبيحة التي تحاول المليارات الإسرائيلية المسروقة أن تتستر عليها ، وإزالة التشويه الذي يلحق صورة الشعب الفلسطيني المظلوم بدعاية إسرائيل وصانعيها ، وبأخطاء بعض المسلمين وقادتهم السياسيين والفكريين على السواء . ومن تجليات هذه الصبغة العالمية للخطاب السياسي الياسيني ، إلحاحه المستمر على بيان أن إسرائيل لا تريد السلام كما تزعم، وأنه مستعد للقبول بوقف المقاومة إذا انسحب الاحتلال إلى حدود 67 كما صدرت بذلك قرارات مجلس الأمن ، ولكن إسرائيل لا تقبل بذلك ، وبالتالي هي الدولة المارقة على المجتمع الدولي . بل كانت حماس وياسين على رأسها تقبل بالهدنة أكثر من مرة مع إسرائيل لتقول للعالم بلسان الحال قبل المقال أن المشكلة في الصهاينة لا في المقاومة. ومن تجليات ذلك أيضا بيانه المستمر أن الحرب القائمة ليست مع اليهود كأصحاب دين، وإنما مع اليهود الصهاينة الذين اغتصبوا الأرض وهتكوا العرض . ولا شك أن هذا الخطاب له وقعه العالمي الطيب . ولا شك كان عاملا من عوامل تصويت غالبية الأوروبين على أن إسرائيل هي أكبر مهدد للسلم العالمي. وأوضح دليل على حكمة الإمام السياسية في خطابه العالمي، استخدام مصطلح المقاومة أكثر من استخدام مصطلح الجهاد، بل إن اسم الحركة نفسه أخذ بالمصطلح المعاصر للجهاد وهو المقاومة. ولا شك أن من مبررات ذلك هو عالمية مصطلح المقاومة، خلافا لمفهوم الجهاد فهو اصطلاح إسلامي صرف. كما أن هذا الأخير يتعامل معه الآخر الأجنبي بحساسية ناتجة عن أحداث التاريخ القديم. ومن الأمثلة البارزة على الحكمة السياسية توظيفه للنظرة الفقهية إلى أرض فلسطين لتحميل كل المسلمين المسؤولية عنها، وليس حصرها في الفلسطينيين وحدهم. تلك النظرة التي يكررها دائما، وكررها في رسالته إلى الرؤساء العرب حيث قال إن" أرض فلسطين وقف إسلامي لا يجوز التنازل عن شبر منها حتى وإن كنا لا نملك الآن القوة اللازمة لتحريرها". وعلى الصعيد الداخلي تمثلت حكمة الإمام أحمد ياسين من إصراره الدائم على وحدة الصف الفلسطيني، وعصمة الدم الفلسطيني ، وحرمة توجيه البندقية الفلسطينية إلى صدر الفلسطيني حتى لوقام بقتله ، وهذا ما تجلى في صبر حماس على قتل السلطة لبعض أعضائها أكثر من مرة . وهذا الخطاب يقوم على مبدأ ديني أصيل يتمثل في عصمة دم المسلم ، وتجسيد معاصر لقول القرآن" لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين" المائدة :28 . من ملامح الخطاب السياسي "الياسيني" أنه خطاب واضح في : في عبارته ، وفي وسائله ، وفي أهدافه . وهذا الوضوح يثيرك إذا تابعت أحاديث أحمد ياسين وحوارته . إنك كنت تراه يعرف ماذا يريد ، ولا يتتعتع في التعبير عما يريد ، إنه يريد طرد المحتل باللغة التي يفهمها دون أن دون أن يؤلب عليه قريب أو بعيد . ولا حظ هذا الوضوح في رسالته للزعماء العرب حيث قال إن :" أرض فلسطين أرض عربية إسلامية اغتصبت بقوة السلاح من قبل اليهود الصهاينة، ولن تعود إلا بقوة السلاح". ولا شك أن وضوح الخطاب السياسي ، معناه وضوح الرسالة التي يتلقاها السامع سواء كان صديقا أو عدوا ؛ فهو خطاب يطمئن الصديق ، ولا يحير العدو . ولهذا فالعدو الإسرائيلي والأمريكي يفهم مشروع حماس ، لهذا لا يفكر في الضحك عليها بالطرق الملتوية التي يحسبها الناظر سلاما ، وهي خيانة واستسلام . كما أن الصديق الفلسطيني والعربي والعالمي يعرف هذا المشروع ، فهو إذا عجز عن مساعدتها فيه ، فلا يطمع في أن تتنازل عنه. وكذلك لا تكاد تسمع لأحمد ياسين إلا وتلاحظ الروح التوفيقية والتجميعية تسري في لغة ومضمون خطابه السياسي. وأشد ما تتجلى هذه الروح في موقفه المحلي والعربي. فعلى المستوى المحلي بذل ياسين جهدا كبيرا في جمع كلمة الفصائل الفلسطينية، ولم يقبل أن يكون بديلا لعرفات حتى لو أراد بعض أنصاره ذلك، وعندما وضعته السلطة الفلسطينية في الإقامة الجبرية في ديسمبر 2001م ، لم يعلن الحرب كلاميا ولا عمليا ، لأن رص الصفوف شرط صحة المقاومة ، وسلامة وصحة المقاومة أهم من سلامة وصحة أحد قادتها ، حتى لو كان أحمد ياسين . كما قبل أحمد ياسين وإخوانه أكثر من مرة بوقف المقاومة تطييبا لخاطر إخوانهم الذين كانوا يظنون أن هذه العمليات إذا توقفت فإن إسرائيل ستتوقف عن عدوانها على الشعب الفلسطيني. لقد كان الإمام الشهيد يدفع بالتي أحسن مع إخوانه الذين يؤذونه ويعادونه ، وكانت النتيجة أن الذين بينه وبينهم عداوة أصبحوا كأنهم ولي حميم ، ولهذا اجتمعت عليه كل الفصائل والشخصيات حيا وشهيدا . ولهذا كان التساؤل الذي طرح عن تأثير غيابه على علاقات حماس بالسلطة والفصائل تساؤلا مشروعا . ولكن يبدو أن هذا الغياب لن يؤثر بإذن الله ؛ لأن هذا المنهج أصبح "حماسيا" ولم يبق" ياسنيا" ، وهو مابدا في تصيحات خلفه د.عبد العزيز الرنتيسي رحمه الله الذي قال في أول تصريحاته بعد مبايعته قائدا لحماس في غزة إن الوحدة الوطنية هي العنوان الأول الذي يعمل من أجله ، وقدمها على العنوان الثاني وهو تفعيل الانتفاضة. ويتضح أيضا الملمح التوفيقي "الياسني" في البعد العربي لخطابه السياسي ، عندما يصر أن يبين  أن حركته تسعى لأن تجمع الأنظمة الرسمية ، والأحزاب والحركات المؤيدة  والمعارضة حول دعم القضية الفلسطينية ، ولا تتدخل حماس في علاقات هذه الأحزاب بحكوماتها . وفي الحقيقة فهذا البعد التوفيقي في الخطاب السياسي الياسيني كان له أثر حسن في حفاظ حماس على علاقات جيدة مع الأنظمة العربية ومعارضتها على حد سواء . ولا شك أن ياسين كان يعي أن هذا البعد لابد منه ؛ لأن جمع كلمة العرب شرط من شروط تحرير فلسطين. ولهذا  ركزت رسالة الإمام ياسين إلى القادة العرب على هذا البعد ، فقد قال فيها: "إن الأمة تملك من الإمكانات والطاقات والقدرات ما يجعلها قادرة على نصرة قضاياها القومية، ووضع حد لجرأة أعدائها عليها، وإني لأرى أنه قد آن لأمتنا أن تعمل بقول الله عز وجل "وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ"، لتصبح قوة في زمن التكتلات " وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ". الواقعية كان الإمام الياسين واقعياً وهو يتطلع إلى المستقبل ، لا ينسى واقعه المعيش ، لقد كان ينظر بعين إلى المستقبل ، وبأخرى إلى الواقع . إنه كان ينظر إلى واقع المقاومة وإمكاناتها البشرية والمادية ، فيسير بها من الحجارة والسكاكين ، إلى العمليات الاستشهادية ، وقذائف الهاون وصواريخ البنا والقسام والبتار . وينظر إلى واقع السلطة والفصائل الأخرى التي تسكن معه في نفس البيت ، فيحاول أن يقنع المتردد ، ويعلم الجاهل ، ويصبر على المعاند . وينظر إلى واقع الجيران من العرب والمسلمين ، فيستبشر إذا أعين ، ولا ييأس إذا طرد وجفي . وينظر إلى واقع العالم الذي تصول وتجول فيه أمريكا كما تشاء طغمة شيطانية تديرها في العلن أو الخفاء ، فيكون أول من يعطي البرهان أنه من الممكن ألا ننهزم ولا نستسلم أمامها . ولكن هذا الواقع تجده حاضرا بشكل إيجابي لا سلبي في خطاب أحمد ياسين السياسي . وفي رسالة ياسين إلى الزعماء العرب ، تجد أثر ذلك . فهو يعلم أن الواقع العربي الآن غير مؤهل للقيام بدوره في تحرير فلسطين المغصوبة ، ولكن هذا لا يستلزم بأية حال التخلي عن والتنازل عنها ، وقد قرر هذا المعنى في قوله للزعماء العرب عن فلسطين " وهي أرض وقف إسلامي لا يجوز التنازل عن شبر منها حتى وإن كنا لا نملك الآن القوة اللازمة لتحريرها". الياسين.. وقفة مع الدور التاريخي إلى جانب الحزن العميق الذي سقطنا فيه فجر استشهاد الإمام الياسين، كانت تنمو بداخلنا مشاعرُ الخوف الكبير على مستقبل قيادة العمل الإسلامي في فلسطين خاصة في بُعده المرجعي.. كان الواحد منّا يتساءل هل يمكن أن يملأ فراغ الياسين؟ وهل يمكن أن تجودَ لنا الأمّة بمثله؟ وكان الجواب يأتي سريعاً بالإحباط، فلقد أدرك حينها كل الذين عاشوا مع الإمام الياسين اُستاذاً ومجاهداً وشيخاً وقائداً، أنّه نموذج قلَّ نظيره في عالمنا الصعب، إنّه ظاهرة يصعب أن تتكرر في حياتنا العامة. كنّا نتساءل سؤال المعجز: من ذا الذي يقوى على النهوض بمشروع النهضة الشاملة؟ من ذا الذي يملك أن يُعبّئ الأمّة ويصنع الحدث ويرسم الطريق في ساحة كلها تحديات، تحكمها لغة العنف وحوارها السجن والقتل والاغتيال؟ كنّا نعلم تمام العلم أنّ الشهيد الياسين بقدراته الاستثنائية، وبشخصيته الفذة، قد أتعب الجميع، وأننا لا نملك سوى الصبر والانتظار الطويل حتى يجودَ الدهر برجل آخر ويمنّ الله على الأجيال القادمة بشخصية عملاقة مثله ترسم معالم الطريق من جديد، وتعطي للأمة ما تريد، وتلبي لها احتياجاتها الفكرية والعملية. خلاصة  التجربة قدّم الإمام الياسين في تجربته الطويلة منهاجاً عملياً في التعامل مع القضية وتحريكها باتجاه الهدف الإسلامي، ويمكن أن نستخلص أهم سمات هذا المنهاج بما يلي: أولاً: إنّ الأمّة في فلسطين لم تعد بحاجة إلى المزيد من التوعية والمهام الفكرية، إنّما تحتاج إلى قائد يعيشها وتعيشه في علاقة حب متبادلة، فالقائد الذي يمنح الأمّة قلبه، يجدها سخيةً في منحه الولاء، تُعطي الروح والجسد بكل أريحية، وليس بعد هذا وفاء. قلب القائد هو التعبير الواقعي عن مصداقية القيادة وجدارتها في رسم الطريق للأمّة والتفاعل بها ومعها. وقلبُ القائد هو شرط أول في القائد الميداني. ثانياً: لقد استطاع الإمام الياسين أن يَفهم الأمّة، ولأنّه فهِمَها بعمق ودقة فإنه تمكن أن يؤثر فيها، والأمّة تريد القائد الذي يفهمها... ويراها وتراه بلا حجاب أو ستار.. إنّها تريد قيادة ميدانية تتقدم الصفوف بشجاعة، وعند ذاك تبادر إلى فعل كل ما يراد منها، تحول إيماءته إلى موقف... وإشارته إلى فعل... ورأيه إلى تيار. ثالثاً: إنّ الأمّة لم تعد بحاجة إلى المزيد من التوعية والتنضيج، بل هي واعية وناضجة بما فيه الكفاية، وهل هناك نضج ووعي أكثر من إرادة الثورة والتضحية، وقد أدرك الإمام الياسين هذه الحقيقة وعمل على أساسها، فقد كان (رحمه الله) يركز على ثقافة الثورة وليس ثورة الثقافة. كان يريد ثقافة الفعل لا الفعل الثقافي. وهذا ما يدعونا إلى تقييم دائم لجماهيرنا لمعرفة مستوى النضج والوعي على أسس موضوعية تقدر مستوى النضج، وتقدر نقاط التحول التاريخي في مسارات الأمّة وحركتها. رابعاً: يخطئ من يفكر بأنّ الإنسان الفلسطيني يتعب أو يرهقه طول السير، فهو يتجدد مع الأيام، يتمرد على الجراح والحزن، والأكثر من ذلك يستطيع أن يبدع القوة.. يجمع الأشلاء ليحولها إلى عملاق يتحدى.. يؤلف من دموع المحنة نشيداً متحدياً... ويحول الآهات صرخة ثورة. وهذا ما بينه الشهيد الياسين في مسيرة عطائه، وجاء من بعده رواد مدرسته ليسيروا في هذا الاتجاه، ويحقق نجاحاً تاريخياً تشهد له أرض فلسطين بجماهيرها ونخيلها ومساجدها، ولا حاجة بعد ذلك لمزيد شهود. خامساً: كان الإمام الياسين وكما يفهم من تجربته ومن بعض الأحاديث الخاصة التي أدلى بها ـ يؤمن بضرورة المبادرة القيادية عندما تكون مطابقة للحكم الشرعي، وأن العمل بالتكليف الشرعي هو ضمانة للمواصلة والاستمرار، ولم يكن يميل إلى تعقيد المشروع بالدراسات المستفيضة التي تقتله بحثاً ونقاشاً فإذا ما خرج إلى شمس الواقع خرج أرمدَ من كثرة ما أرهقه سهر النقاش. وهو في ذلك يؤمن بأهمية التحرك والفعل الجماهيري. فالأمّة ليست موضوعاً للنقاش والتأمل، إنما هي قوة بحاجة إلى استثمار وتحريك باتجاه الهدف المطلوب، ولا يحرك هذه القوة قائد النظرية فحسب بل قائد النظرية والتطبيق. وخلاصة القول أنّ الياسين كان ظاهرة في العمل الإسلامي ومدرسة في الموقف القيادي، كما كان خلفه الشهيد الرنتيسي ظاهرة رائدة ولدت في عصرها لتحدث التغيير في مرتكزات المفاهيم السائدة، وأخالف كل الذين يقولون أنّه ولد في غير عصره. لقد صنع الياسين العصر الذي يريد.. وجاء الياسين ليصنع العصر الذي يريد أيضاً، وإذا بالشعب في فلسطين يفتح عينيه ليجد رافداً جديداً من العمل الرائد الأنمودج. إنّ اللحظة التي استُشهد فيها الياسين والرنتيسي هي واحدة لا فرق بينهما، فكلاهما بداية لتحديد المسؤولية لمن يأتي ليحمل الراية المضرجة بالدم والمشرقة بآمال النصر. والأمّة تتطلع من بين الوجوه لمن يحملها بيد قوية ويتطلع بعين ثاقبة ويفكر بعقل هو الأمّة. تبحث عن قائد يعمل بشجاعة وصدق فيحول الرأي إلى موقف والقرار إلى فعل، ولا فرق عنده بين أن يموت أو يحيا ما دام ذلك من أجل الإسلام. علّمنا الياسين أنّ الأمّة تريد القائد الذي يضم بين ضلوعه قلب الجماهير ويحمل في رأسه عقلها، وملامحه هي الشعب كله.. وعند ذلك يكون قائداً لا يقتله الرصاص، مثلما عجز الرصاص عن قتل رافد فلسطين.. الشهيد الياسين. لا شك أن المتتبع لمسيرة حياة الإمام الشهيد الياسين سيكتشف ملامح أخرى كالأناة السياسية، والصلابة في الثوابت والمرونة في الوسائل، ونماذج أخرى للملامح التي ذكرت والتي لم أذكر، وسيتضح له أن الإمام الياسين أسس مدرسة في فن القيادة والخطاب السياسي خاصة كما أسس حركة مقاومة . ولا شك أن هذه المدرسة هي إبداع من تلميذ نجيب للمدرسة الوسطية الكبرى التي ينتمي إليها الشهيد الياسين وإخوانه. كما أنه لا شك تخرج منها الكثير من النجباء في حماس، ولكن المطلوب من حماس خاصة، ومن سائر القوى الإسلامية والوطنية والقومية، أن تبحث في هذه المدرسة التي أسسها الإمام الياسين  حتى تكون منهجا محددا ، يضاف إليه ويحذف منه ، لتستفيد منه حركة حماس أولا ،  و باقي القوى ثانيا . ومساهمة في إحياء تراث الإمام الشهيد الياسين، وتسليط الأضواء على عطاءاته الفكرية، وحركته السياسية، ومشروعه الجهادي المبارك، ينبغي تدارس هدا التراث و ليساهم فيها عدد من العلماء والمفكرين والباحثين الإسلاميين، حيث يتناولون جوانب مختلفة من فكر، وتراث، وحركة هذه الشخصية الفذة ذات الأبعاد المتعددة.ولا شك أن حماس معنية أكثر من غيرها بتكليف باحثين ومتخصصين لرسم معالم وخصائص ومقومات الخطاب السياسي عند مؤسسها أحمد ياسين، كما هي معنية بتجميع ونشر ودراسة تراثه كله. وهذا لعمري واجب في عنق حماس والإخوان المسلمين و مفكري الأمة لهذا الجيل وللأجيال القادمة.ومن الله التوفيق... والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته