ورقة تحليل وأبعاد
خاص: معهد فلسطين للدراسات الاستراتيجية
إعداد: أ. ماجد الزبدة
طروحات إنسانية متسارعة وتصريحات إسرائيلية تسارعت وتيرها في الآونة الأخيرة, جميعها حملت في طياتها بُعداً إغاثياً لأهل غزة، ووعودات بانفراجة قريبة لحصار طال أمده للعام الثاني عشر على التوالي.
هذه الطروحات والتصريحات حملت أفكاراً إغاثية متنوعة بدءاً من فكرة تشييد ممر بحري يمتد من قبرص إلى غزة، مروراً بإنشاء محطة للطاقة الشمسية تعالج انقطاع الكهرباء المتواصل فيها، وصولاً إلى تشغيل آلاف العمال الغزيين في مستوطنات غلاف غزة, وإقامة منطقة صناعية ومشاريع كبرى شمال سيناء لخدمة أهالي القطاع.
الكاتب والأكاديمي الفلسطيني عبد الستار قاسم أشار إلى أن الاحتلال يهدف إلى تحويل القضية الفلسطينية من قضية تحررية سياسية إلى قضية إغاثية إنسانية، وبالتالي يجب البحث دولياً وإقليمياً عن حل إنساني لمشكلة غزة كمقدمة لإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي على حساب الحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني.
أما الكاتب والمحلل السياسي إياد القرا فقد رأى بأن توقيت إعلان الاحتلال عن أفكار إغاثية إنسانية لصالح غزة إنما يأتي في وقت تعاني فيها دولة الاحتلال من حملات مقاطعة وفضح صورتها أمام العالم، مؤكداً بأن الاحتلال يسعى بين الفترة والأخرى إلى تقديم مشاريع إنسانية بمستويات عدة لإشغال الساحة السياسية بمشاريع فرعية لا تمت للمشكلة الأساسية بِصِلة، ويتم الإعلان عنها بشكل علني رسمي أو من خلال بعض وزراء دولة الاحتلال، لتبدو وكأنها طروحات إسرائيلية شخصية.
لا شك أن توقيت طرح الاحتلال لأفكار إغاثية وإنسانية للتخفيف من حدة الأزمة الإنسانية في غزة؛ إنما يُعبِّر عن هواجس إسرائيلية متصاعدة من استمرار الزحف الجماهيري السلمي باتجاه السلك الشرقي الفاصل، ويهدف إلى إظهار معاناة غزة وكأنها قضية إنسانية بحتة بعيداً عن الأبعاد السياسية والوطنية، وتبرئة الاحتلال من جريمة حصار غزة وإظهار حرصه على مساعدة أهلها في محاولة للتأثير عليهم وثنيهم عن المشاركة بأعداد كبيرة في مسيرات العودة الكبرى، إضافة إلى كونه يحمل في طياته تهديدات مبطنة للسلطة الفلسطينية بإمكانية تجاوزها حال أصرت على رفضها التعاطي مع "صفقة ترامب" لتصفية القضية الفلسطينية.
تحويل القضية الفلسطينية من صراع سياسي إلى قضية إنسانية هو نهج قديم اتبعته دولة الاحتلال طيلة العقود الماضية؛ بحسب رأي رئيس معهد بيت الحكمة أحمد يوسف الذي أكد أن دولة الاحتلال مارست هذا الأسلوب بعد احتلالها للضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967م، ونجحت لقرابة عقدين من الزمن في إشغال الشعب الفلسطيني بأموره اليومية الحياتية, إلى أن جاءت انتفاضة الحجارة عام 1987م، وشكلت حالة وعي في وجه الاحتلال، وأدت إلى تحرك الماكينة الاستعمارية لتهدئة الأمور جزئياً لعشرين سنة أخرى, بهدف إشغال الفلسطينيين بخلافاتهم وصراعاتهم الداخلية. واليوم مطلوب "ملهاة جديدة" ينشغل بها الفلسطينيون لعشرين سنة قادمة, حتى يتسنى ترتيب أوضاع المنطقة لتنسجم مع التحولات الجديدة التي تهدف إلى إخراج دولة الاحتلال من دائرة الصراع كعدو إلى حليف، وإعادة صياغة الأوضاع السياسية والأمنية والاستراتيجية في المنطقة بناءً على ذلك؛ بحيث تصبح دولة إيران هي العدو القائم والقادم للشعوب العربية، وليس دولة الاحتلال الإسرائيلي.
وفيما يتعلق بالترتيب الزمني للأحداث فقد ذهب أستاذ العلوم السياسية في جامعة الأزهر مخيمر أبو سعدة إلى أن اشتداد الأزمة الإنسانية في قطاع غزة يتقاطع مع طرح "صفقة القرن" الأمريكية والتي بدأت تأخذ طابعاً أكثر جدياً بعد اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال في السادس من ديسمبر 2017م، ومن ثَم نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس في الرابع عشر من مايو 2018م. مؤكداً أن اشتداد الأزمة الإنسانية في غزة جاء نتيجة قيام رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس بفرض إجراءات استثنائية على القطاع في بداية ابريل 2017م بهدف الضغط على حركة حماس لحل اللجنة الإدارية وتسليم قطاع غزة إلى السلطة الفلسطينية، ما أدى إلى ازدياد نسب الفقر والبطالة وانخفاض القدرة الشرائية للمواطنين, مما انعكس سلباً على معظم مناحي الحياة في غزة.
وقد ذهب السياسي الفلسطيني أحمد يوسف إلى أَنَّ تَعمُّد تجويع قطاع غزة عبر الإجراءات العقابية التي يقوم بها رئيس السلطة الفلسطينية؛ والعمل على كسر إرادة وصمود أهالي القطاع؛ وتطويع فِعْلِهم النضالي المُمَثَّل بمسيرات العودة؛ إنما يأتي بغرض الرضوخ للمخطط الصهيوأمريكي المغَلَّف بوجه إنساني خادع يجعل القبول به – إذا تمَّ - من باب الحاجة والضرورة القصوى. منوهاً إلى أن الإجراءات العقابية التي تمارَس ضد قطاع غزة بشكل عام والتقليص في الميزانيات الأممية تهدف إلى عصر الفلسطينيين معيشياً، وتهيئة الأجواء للاستسلام في ظل غياب البدائل الأخرى. مشيراً إلى أن استمرار الانقسام الفلسطيني يساعد على تمرير "صفقة القرن"، ويوفر لدولة الاحتلال الذرائع لابتلاع الضفة الغربية عبر التهجير والاستيطان، وأن ما يتبقى من كيانية فلسطينية في قطاع غزة ستعيش وتتعايش كـ"حالة إنسانية" تعتمد على المساعدات الخارجية، وربما يتم تصفيتها سياسياً؛ باعتبارها كيان "حكم ذاتي" خاضع سياسياً وأمنياً لدول الجوار.
كما أشار يوسف إلى أن "صفقة القرن" الأمريكية هي رؤية قائمة على حلٍّ جزئي وليس جذري، بهدف تلهية الفلسطينيين بانفراج اقتصادي يُخرِجهم من وضعية الجوع والفاقة إلى أحلام الأمنيات من جديد. متوقعاً ألا تكون السلطة الفلسطينية عقبة أمام تطبيقها في ظل الانقسام الفلسطيني الداخلي، وتداعيات حالة الوهن والانكسار العربية على الجبهة الداخلية الفلسطينية، ومتوقعاً في ذات الوقت ممارسة ضغوطات على السلطة الفلسطينية لتهميشها إذا ما استمرت في تمنّعها الظاهري بالرفض، والذي يبدو مُفتَعلاً لتبرير خطيئتها وسلوكها غير المقبول وطنياً.
رفض التعاطي الفلسطيني مع "صفقة القرن" من قبل القوى والفصائل الفلسطينية وإنهاء الإنقسام السياسي وإعادة ترتيب البيت الداخلي الفلسطيني والاتفاق على استراتيجية فلسطينية موحدة هي خطوات مهمة لمواجهة تلك الصفقة بحسب أستاذ العلوم السياسية في جامعة الأزهر مخيمر أبو سعدة، الذي أكد على ضرورة التمسك بحل الدولتين وقرارات الشرعية الدولية ذات العلاقة بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي، إضافة إلى حث الدول العربية على عدم التعاطي مع الصفقة ورفض التطبيع مع دولة الاحتلال، واللجوء إلى المؤسسات الدولية بما فيها مجلس الأمن الدولي، والجمعية العامة للأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية لإسقاط "صفقة القرن" وحل مشكلة اللاجئين على أساس القرار 194.
كما يرى الكاتب والمحلل السياسي إياد القرا ضرورة تشبث الشعب الفلسطيني بدور المؤسسات الدولية, وفي مقدمتها الأمم المتحدة ووكالة الغوث والمؤسسات الإنسانية؛ في توفير الجوانب الإنسانية لغزة، وأن أية حلول أخرى يجب أن تكون ذات بُعد سياسي بتلبية الحقوق والمطالب السياسية الفلسطينية. ويحذر القرا من أن القبول بالأفكار والطروحات الإسرائيلية الإنسانية يُعتبَر استجابة للخداع الإسرائيلي في البروز بشكل إيجابي, والتهرب من المسؤولية كدولة احتلال أمام المجتمع الدولي.
ختاماً؛ فإن التصريحات والطروحات الإسرائيلية ستبقى حبراً على ورق ما لم يتم ترجمتها إلى وقائع ملموسة تُخفف من حدة الأزمة الإنسانية المتفاقمة في غزة، خاصة أن دولة الاحتلال التي تحاصر غزة وتمنع عنها الحد الأدنى من مستلزمات الحياة تتحمل المسؤولية الكاملة عن احتلالها أمام القانون والمجتمع الدولي؛ الذي يمكنه - لو امتلك القدرة والرغبة الحقيقية – الضغط على دولة الاحتلال لإنهاء حصارها واحتلالها لقطاع غزة ووقف تدهور الحالة الإنسانية به, تحقيقاً للاستقرار والسلم في المنطقة.