لا يعرف الاحتلال الاسرائيلي بطبيعته المعهودة، إلا الغدر والخيانة ونقض المواثيق، فكان نقض الاتفاقيات الموقعة ظاهرة إسرائيلية متكررة، ضمن ممارسات منهجية تبنتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة. وقد تميزت السياسية التفاوضية الإسرائيلية بالاستمرار في إطالة أمد التفاوض كسبًا للوقت، وللحيلولة دون حدوث أي متغيرات جوهرية لصالح الشعب الفلسطيني، ولفرض وقائع جديدة على الأرض، تعزز قدرة الاحتلال على فرض مزيد من الضغوط على المفاوض الفلسطيني للقبول بشروطه التفاوضية.
عملياً لا توجد مفاوضات مباشرة بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، لذلك لا يوجد أوراق مُوقّع عليها، نحن نتحدث هنا عن تفاهمات أكثر منها اتفاقيات، فالدخول في مفاوضات مباشرة يعني اعتراف الكيان بالمقاومة كطرف، وهذا لن يكون إلا إذا أصبح لدى المقاومة قوة تجبر الاحتلال على ذلك. ففي كل العدوانات الإسرائيلية السابقة على قطاع غزة، وصلت المفاوضات إلى الإعلان عن تفاهمات غير ملزمة، إلا صفقة وفاء الأحـرار فكانت اتفاقاً موقعاً، نظراً لوجود وسطاء دوليين إلى جانب الوسيط المصري، ومع ذلك أخل الاحتلال باتفاق الصفقة.
الاتفاقية المكتوبة والموقع عليها، تكون في حالة المفاوضات المباشرة بين طرفين أو كيانين رسميين، تتميز العلاقة بينهما بالندية، وبتوازن القوى بينهما إلى حدٍ ما، ويدخل فيها وسطاء دوليون، وفيها تسجل الاتفاقية بشكل قانوني، ويعترف بها رسمياً وتحترم دولياً، وهنا تكمن ضمانة المتابعة والالتزام بالتنفيذ. أما في حالتنا الفلسطينية فالأمر مختلف، حيث المفاوضات تتم ضمن جولات غير مباشرة، كما لا يوجد اعتراف دولي بك كطرف مفاوض، ولا يوجد تدخل رسمي من وسطاء دوليين للتكفل بما تم التوقيع عليه، وضمان تحقيقه مستقبلاً، ومحاسبة المخلين به.
ولا شك أن كل جولة من الجولات تقدم خبرة جديدة للمفاوض المقاوم، فإدارة المفاوضات مع العدو أصبحت بالتراكم مبنية على دراسة دقيقة لموضع الألم والوجع لديه، ومبنية على أوراق القوة لدى المقاومة، وكيفية استثمارها إلى أبعد مدى، وكذلك الصبر والنفس الطويل لاستثمار ما لديها، ومهما كان لدى العدو من قوة؛ فلدى المقاومة تلك القوة التي تردعه.
من الأهمية بمكان، أن يتخلـى المـفـاوض الفلسطيني المقاوم، عن أنه منهزم أو مغلوب أو خاسر في هذه الجولة أو تلك، بسبب ضعف موقفه مقارنة بالاحتلال، فتاريخ التفاوض، وخاصة ما يعرف بالمفاوضات غير المتكافئة، يفيد بأن الصبر والإصرار على الثبات، وتعظيم هامش قدراتك كمفاوض، هو أفضل الخيارات في كل الأحوال. وفي نفس الوقت، ينبغي للمقاومة الفلسطينية استخدام مصطلحات تعكس ذلك الواقع، كي يعرف الرأي الفلسطيني العام حقيقة ما يدور، وكي لا يحملها مسؤولية تصدير الأمل المفرط، أو اتهامها بالخداع إن صح التعبير.
إن من أهم العوامل التي يمكن أن تحسن شروطنا التفاوضية، التطور الكبير في السلاح كمًا ونوعًا، والقدرة على إيلام العدو في مكمن الألم والوجع، وبشكل أكبر مما كان عليه سابقاً، وهو ما سيخلق نوعاً من الردع، سيمكننا حينها من فرض شروطنا والتمسك بها في أي مفاوضات. إضافة إلى عدم إضاعة الوقت مع وسطاء منحازين للاحتلال، مع ضرورة التفكير في إشراك وسطاء دوليين وأمميين نزيهين، لمتابعة تطبيق التفاهمات على الأرض.
باستطاعة المقاومة أن تمارس ضد الاحتلال الأسلوب القهري في التفاوض، بمعنى استخدام القوة وزيادة الضغط العسكري على العدو، من أجل الإكراه والإجبار على التراجع عن مواقفه وشروطه التفاوضية، وفي المقابل عدم تنازلنا عن شروطنا, مهما كان حجم التهديد الممارس ضدنا، ويعتمد هذا الأسلوب على قدرة المقاومة على تحمل الخسائر، وإيقاع الأذى الجسيم بالعدو واستنزافه، مع ضرورة ترك منفذ للخروج، حتى يمكنه البدء في تسوية الأزمة، بدلًا من تصعيد الموقف، وإطالة أمد الصراع، أو توسيعه.
ختاماً، إن أصرّت المقاومة على اتفاق مكتوب، وحدث أن وافق الاحتلال مرغماً، فإنه ما لم يتم التوصل إلى اتفاق شامل وواضح, ستظل المفاوضات مجرد وجهات نظر متبادلة. لذا ينبغي أن يكون الاتفاق تفصيليًا في صياغته, ومفهومًا لدى الأطراف. ولا قيمة لأي اتفاق، إن لم يكن موقعاً وملزماً للاحتلال، مراعياً للشكل والمضمون، ودقة الألفاظ والتعبيرات والجمل المحددة. كما يجب الحرص قبل التوقيع، وحتى بالأحرف الأولى، على أن يتضمن الاتفاق ملحقًا بآليات التنفيذ والجداول الزمنية لذلك. قد لا تكون الضمانات كافية ولا المواعيد مقدسة، لكن على الاتفاق أن يتضمنها، فالأساس هو التنفيذ.
إن أهم تلك الضمانات التي يجب أن تكون حاضرة، هو التلويح بالقوة العسكرية للمقاومة في حال أخل الاحتلال بالاتفاق، فليست المشكلة في اختراق هدنة أو نقض اتفاق، إنما في كيف ومن يستطيع لجم الاحتلال ومنعه من تكرار حماقاته.