يتعذر حتى اللحظة الراهنة التوصل الى اتفاق او صيغة تنهى الجولة الحالية من القتال الناشب جراء العدوان الصهيوني على قطاع غزة والذي بدأ بتنفيذ جيش الاحتلال الاسرائيلي لسلسلة اغتيالات أدت لاستشهاد ثلاثة قادة من كوادر حركة الجهاد الاسلامي مع نسائهم واطفالهم في جريمة لا يمكن وصفها الا بالبشعة والنكراء كونها تمس بشكل سافر كل القيم الانسانية التي اعتادت "اسرائيل" الدوس عليها، دون الاكتراث لردود فعل الاطراف الدولية الراعية لإجرامها، إلا أن الجريمة هذه المرة تحمل سياقات دولية وظروف اقليمية مختلفة عن سابقاتها من ناحية وجود اليمين الصهيوني المتطرف على رأس حكومة الكيان وما سبق العدوان من مواقف متعددة اظهرت استياءات عدة قوى دولية من تصرفات رموز هذا اليمين في محطات مختلفة ناهيك عن سياقات اخرى مرتبطة بإرادات القوى الكبرى وخرائط نفوذها في المنطقة، إذ يتضح من اللحظة الاولى ان التصريحات تجاه العدوان حملت الكثير من معاني الرفض وعدم القبول حتى من الموقف الامريكي التقليدي الذي يمكن وصفه بالأسوأ في كل الاحوال والظروف على مر تاريخ الاحتلال تجاه الفلسطينيين، إذ لم يبد هذه المرة تلك الحماسة السمجة في الدعم المطلق للكيان والتي عرفناها عنه دوما في مثل هكذا ظروف، رغم ما يتجلى من مأزق يعيشه الكيان الصهيوني حاليا في ظل ضغوط مركبات الحكم فيه وضعف قدرة بعض هذه المركبات عن ادراك حدة المخاطر المتزايدة على الكيان بتأخر الوصول للتهدئة.
ان استطلاع الخارطة السياسية الفلسطينية يظهر عدة اتجاهات متباينة بين الفاعلين الرئيسين فيها، ففي حين تحرص حماس على ابراز ما تعتبره انجازا وطنيا في تحويل منظومة حكم غزة الى حاضنة لمقاومة الاحتلال وتقف بكل ما استطاعت لتفعيل الغرفة المشتركة لقوى المقاومة وتلزم نفسها في هذا الاطار في تطور نوعي من حيث الاسلوب والتوجه للتعاطي مع اعتداءات الاحتلال دون أي اكتراث لمعاني الحزبية الضيقة رغم فوارق الامكانات لديها والتي لا تهتم لها بقدر ما تهتم بتعويم وتعميم برنامج المقاومة وهو ما استطاعت حماس بكل قوة واقتدار ان تجسده في هذه المرحلة فيما يعتبر تتويج لما استطاعت ان تتخطاه طيلة كل هذه السنوات من الاستهداف لتصل لهذه اللحظة الفارقة من التفوق الاستراتيجي والبراعة التكتيكية، حماس التي خبرت الممارسة السياسية في مثل هكذا ظروف تترك الساحة لقيادة الجهاد الاسلامي للتفاوض في مصر، وتهتم اكثر في ضبط الميدان لإيصاله على ما يبدو بأقل الأضرار الى نقطة زمنية مرتبطة بالتأثير على مسيرة الاعلام الصهيونية التي يسيرها اليمين الصهيوني المتطرف في نهاية الاسبوع، فرغم احساس حماس المتجذر بالمسئولية المدنية عن 2.5 مليون فلسطيني في قطاع غزة ترى ان المسئولية الوطنية تحتم التريث والصبر عدة ايام اخرى للوصول الى جني ثمار مهمة في هذه الجولة ادراكا منها لأهمية اللحظة على الساحة الدولية، كما تعرف جيدا حجم كي الوعي الذي تتعرض له القيادة الصهيونية المتورطة والذي سيفيد لاحقا بعدم العودة للتعامل مع غزة على اعتبار انها الحلقة الاضعف كما وسينهي مغامرة نتنياهو السياسية المرتكزة على دق الاسافين بين القوى العسكرية الفلسطينية بعد فشلها الحالي، وبالنظر الى موقف فتح التي لم تكتفي بدور المتفرج في بداية العدوان بل تجاوز الامر ذلك بخروج بعض التصريحات التي تبدو - بقصد او بدون - انها تدور في رحى جهود الاحتلال الرامية لإظهار القوى في غزة مفككة ومتناكفة مع ما يحمل ذلك من دلالة غياب اعتماد سياسة تأثير واضحة لدى فتح فيما يجرى والذي يؤكده ركود اجهزتها الدبلوماسية وكذلك سفر رئيس السلطة دون الالتفات بجدية لتطورات العدوان.
بينما تذهب حركة الجهاد الاسلامي للتمسك فيما اعلن عنه من شروط اعتبرها البعض صعبة التحقق في ظل عنجهية اليمين، حيث يعلل تمسكها بهذه الشروط بأحد اتجاهين الاول انها ترى ان اللحظة مناسبة لفترة طويلة من القتال حاولت الوصول اليها غير ذي مرة في السابق كونها ترى ان ذلك سيدفع باتجاه تفعيل ساحات قتال اخرى مع العدو وفق رؤية قائمة على "وحدة الساحات"، والامر الاخر الذي قد يبدو ملحقا بالأول وهو حجم الخسارة في كادرها القيادي ما يحتم عليها الوصول لصورة تستعيد بها هيبتها القتالية امام شعبها وداعميها الاقليميين عبر الثأر المؤثر الذي تجد في اطالة امد الجولة ضالتها فيه خصوصا مع ما تجده من مؤازرة ميدانية عبر الغرفة المشتركة ومن حماس على وجه الخصوص.
وعلى الساحة الدولية برزت تصريحات المنسق الخاص للأمم المتحدة لعملية السلام في الشرق الأوسط، تور وينيسلاند في بداية العدوان والتي قال فيها بأن "الهجمات غير مقبولة" ودان فيها قتل المدنيين، لتتوالى التصريحات الدولية ازاء العدوان متراوحة ما بين الرفض والشجب والادانة، إذ وصفت تركيا المنشغلة بانتخاباتها الداخلية الاعتداءات بـ"الدنيئة"، كما لم تتأخر ادانات الدول العربية بداية العدوان في حين غابت جهود ايقافه عن اغلبها فيما يشبه حالة عدم اكتراث بما يجرى، وكذلك دانت ايران العدوان ودعت لوحدة الصفوف الفلسطينية في مواجهته كونها ترى ان اطالة امد المعركة يستنزف العدو الاسرائيلي الذي ما انفك عن استهداف مقدراتها والدعوة في كل المحافل الدولية للضغط عليها وايذائها.
وفي حين يظهر الواقع ضعف الحضور الروسي وتضاؤل التأثير الاوروبي، عبرت الإدارة الامريكية عن "أسفها" لمقتل 15 فلسطينيا غالبهم أطفال ونساء ثم صمتت بشكل غير معهود، وأغلب ما صدر عن مستشاري البيت الابيض بعد ذلك جاء على لسان الحكومة الصهيونية في اشارة تستحق التوقف عندها خصوصا اذا ما أخذنا امتعاضات ادارة بايدن في الكثير من المواقف السابقة لحكومة اليمين الصهيوني المتطرف بعين الاعتبار كونها ترى انها حادت عن متطلبات دورها الوظيفي لصالح اجندات التشدد اليميني ما أوجب على بايدن وادارته اتخاذ سلسلة من اجراءات اعادة الكيان الصهيوني الى حظيرة السياسات الامريكية، ليكون ما يحدث من تجاهل امريكا لإخراج الكيان من ورطته احدى هذه الاجراءات والتي تعتبر مبرر آخر لتأخير الوصول الى تهدئة في غياب الضغط الامريكي المعهود، كما ان الموقف الصيني الذي دعا الجميع وركز على مسئولية اكبر لدى الاحتلال الاسرائيلي في العودة الى الهدوء والذي يبدو ان تأخير الوصول ذلك الهدوء المنشود يٌظهر ان الدور الصيني في المنطقة مازال يعتريه الكثير من القصور للوصول الى التأثير المفضي الى الامتثال والالتزام من قبل قوى المنطقة الفاعلة.
إذن فشلت الجهود المصرية في تحقيق التهدئة للعوامل السابقة المتمثلة في غياب الارادات لأهداف مختلفة، واذا وضعنا المجهر على مستوى الجهود المصرية يبدو ان مصر ليست بذات الحماسة قياسا لما حققته في جولات سابقة، اذا ان ظروف مصر الداخلية تنعكس بوضوح على حضورها الاقليمي كما ان الاكمة تخفي الكثير من الضيق المصري من طبيعة الادوار التي تمارسها حكومة اليمين الصهيوني في محاصرة الدبلوماسية المصرية برز آخرها جليا في السودان، ليبدو ان مصر التي لا تستطيع الا التقاط هذه الفرصة لتفعيل دبلوماسيتها ترى ايضا فيما يجرى فرصة لتعزيز دورها الذي يحتاج انجازا معقدا ليدلل على استمرارية اهميته ومركزيته في أهم ملفات المنطقة، وهو ما يدفعها للقياس الدقيق لجهودها من أجل ضمان بقائها اطول فترة ممكنة دون انفلات تلابيب الملف من يديها وهو ما تضمنه الجغرافيا اكثر من ضمانات اهمية الدور.
والمفارقة ان الإزاحات في حسابات المواقف الدولية صاحبه تغير في تفاعلات الساحات الشعبية مع الحدث والتي كانت سابقا تتفاعل بشكل اوضح واكبر في عدة مناطق اقلها مناطق التواجد الفلسطيني والتي غابت عن مشهد ما يحدث حاليا بشكل تام وغير مسبوق ولعل ما يفسر ذلك مرتبط ارتباطا لصيقا بالصورة النمطية لارتباطات حركة الجهاد الاسلامي الاقليمية وكذلك كونه دلالة عن فرق السياسات الشعبية الغائبة غالبا عن اجندة حركة الجهاد الاسلامي والتي تتبعها حماس لتجني ثمارها في تفاعلات الجماهير حين تكون هي بذاتها عنوان المواجهة، ناهيك عن انشغالات الجماهير العربية بالكثير من ازمات المنطقة، وعدم رغبة العديد من الانظمة فتح المجال للتعبير الجماهيري تحسبا لانعكاساته الداخلية وهو ما يقلل الضغط على الاطراف ليكون عاملا اخر من عوامل تأخير التهدئة.