الخلفية:
يقوم مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد) منذ ثلاث عقود ونصف بدعم الشعب الفلسطيني عن طريق إجراء البحوث الموجهة نحو السياسات، وتنفيذ مشاريع بناء القدرات والتعاون التقني، وتقديم الخدمات الاستشارية، وتعزيز توافق الآراء الدولية بشأن احتياجات الشعب الفلسطيني واقتصاده، ويقدم التقرير السنوي تحديثًا للتطورات في اقتصاد الأرض الفلسطينية المحتلة وآفاقه على المدى الطويل، فضلاً عن النظر في سياسات إسرائيل والعقبات المرتبطة بالتجارة والتنمية هناك.
ويرى التقرير لهذا العام بأن الأزمة الاقتصادية المستمرة في الأرض الفلسطينية سببها الاحتلال، والحواجز المنهجية المفروضة منه والتي حرمت الحكومة الفلسطينية من القدرة على استخدام أدوات السياسة المالية والنقدية المتاحة في البلدان الأخرى للتخفيف من حدة تداعيات الأزمات والتعجيل في الانتعاش، ويناقش التقرير في الدورة السنوية لمجلس التجارة والتنمية في جنيف أكتوبر 2022م.
النقاط الهامة التي وردت في التقرير:
الناتج المحلي الإجمالي: في العام 2021 نما الناتج المحلي الإجمالي في الأراضي الفلسطينية بنسبة 7.1%، بعد انكماشه بنسبة 11.3% في العام 2020 بسبب جائحة كورونا، حيث تركز الانتعاش الجزئي في الضفة الغربية، بمعدل 7.8%، وبلغ النمو في غزة 3.4%، وكان هناك تحسن في أداء جميع القطاعات عدا القطاع الزراعي والذي انكمش بنسبة 3%، وكان الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في عام 2021م أقل بنسبة 5.1% عن مستوى ما قبل الجائحة.
نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي: لم يكن النمو في العام 2021م كافياً لتعويض الدخل المفقود في العام 2020م، حيث فقد نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2020م حوالي 15.1% عما كان عليه في العام 2019م، ولكنه عاد ليسجل ارتفاع بنسبة 4.2% في العام 2021م.
البطالة: على الرغم من الانتعاش الاقتصادي في العام 2021م، ظلت البطالة في الأراضي الفلسطينية المحتلة مرتفعة، إذ بلغت 26%، وفي غزة، ظل أكثر من نصف القوة العاملة عاطلين عن العمل، وبلغ متوسط الأجر 48% من نظيره في الضفة الغربية، وحصل 83% من العاملين على أقل من الحد الأدنى للأجور (435 دولار). أما في الضفة بلغت نسبة البطالة 17%، مع حصول 7% من القوة العاملة على أقل من الحد الأدنى للأجور، وعلى الرغم من تمتع النساء الفلسطينيات بمعدلات تعليم أفضل وسنوات دراسة أكثر مقارنة بالرجال، إلا أن 54% من النساء عاطلات عن العمل بالمقارنة ب30% من الرجال.
الفقر: وفق عمليات المحاكاة التي أجراها البنك الدولي في العام 2022م فقد سجل الفقر في الأراضي الفلسطينية المحتلة 35.6% من السكان، وفي غزة يعيش 60% من السكان تحت خط الفقر، وهذه الأوضاع الاقتصادية الصعبة يلخصها وجود قطاع غير رسمي كبير يمثل 60% من القوة العاملة ويتلقى معظم العاملين أقل من الحد الأدنى للأجور(435 دولار)، حيث تتسبب هذا الأجور في تصنيف كثير من الفلسطينيين العاملين على أنهم فقراء.
العمالة الفلسطينية غير المستقرة في "إسرائيل" والمستوطنات: في ظل القدرة الضعيفة للاقتصاد الفلسطيني، لا يوجد خيار أمام الفلسطيني سوى البحث عن فرصة عمل في "إسرائيل" والمستوطنات، حيث تمثل العمالة الفلسطينية خزان للعمالة الرخيصة "لإسرائيل"، كما تفيد الأرقام بزيادة العمالة الفلسطينية في الآونة الأخيرة بأكثر من الضعف منذ إنشاء السلطة الفلسطينية على الرغم من استبعاد القوى العاملة من غزة من العمل في الاقتصاد "الإسرائيلي" منذ العام 2006، ويعمل غالبية الفلسطينيين كعمال غير مهرة في مجال الإنشاءات والزراعة، ويبلغ عدد الفلسطينيين العاملين في الداخل 153,000 عامل يمثلون خمس القوى العاملة النشطة في الضفة الغربية، ويبلغ دخلهم السنوي 3 مليار دولار أي حوالي ربع الناتج المحلي الإجمالي للضفة الغربية، ولعل معظم العمال الفلسطينيين يعانون من الافتقار إلى الحماية الاجتماعية وعدم ملاءمة أوضاع العمل إضافة إلى استغلال سماسرة التصاريح حيث تقدر منظمة العمل الدولية بأن السماسرة يكسبون أكثر من 119 مليون دولار سنوياً عن طريق نظام التصاريح.
تأثير العمل في "إسرائيل" على الاقتصاد الفلسطيني: حيث تقوض القدرة التنافسية للاقتصاد الفلسطيني عن طريق تثبيط الحافز على الاستثمار في رأس المال البشري، خفض المعروض من المهارات، وزيادة الأجور المحلية دون تحقيق نمو مقابل الإنتاجية، إضافة إلى أن هذه العمالة غير مستقرة ولا يمكن التنبؤ بها وحساسة للأزمات السياسية والأمنية، ولا يمكن أن تكون بديلاً عن رفع الحصار عن غزة، ورفع القيود الاقتصادية في الأراضي الفلسطينية.
المياه: توجد فجوات كبيرة في إمدادات المياه في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة تقدر ب33 و102 متر مكعب على التوالي، وبالتالي يستورد الفلسطينيين المياه من "إسرائيل" بتكلفة مرتفعة، وتمثل المياه 8% من الدخل المتوسط للأسر المعيشية الفلسطينية، وهو أعلى بكثير من المعايير الدولية، كما يبلغ استهلاك الفلسطيني ثلث استهلاك "الإسرائيلي" من المياه، وهذا العجز يؤدي إلى تقييد التنمية الزراعية، التأثير على الصحة العامة، ويحد من فرص نمو الصناعات التحويلية بشكل مباشر وغير مباشر.
إمدادات الكهرباء: لا تنتج الأراضي الفلسطينية سوى 3% من الكهرباء المستهلكة، و90% يتم استيرادها من "إسرائيل"، وتعتبر تعرفة الكهرباء هي الأعلى في المنطقة، وتنفق الأسر المعيشية الفلسطينية 9% من دخلها على فاتورة الكهرباء، وهي بذلك أعلى من ضعف ما تنفقه الأسرة في مصر ولبنان، وثلاث أضعاف الأردن. وقد تجاوز الطلب على الكهرباء في الضفة 1,200 ميجا واط، وفي غزة يتجاوز متوسط الطلب 400 ميجا واط، وتصل في الذروة إلى 550 ميجا واط، إلا أن العرض يظل في حدود 190 ميجا واط، حيث يلبي من 35 إلى 48% من متوسط الاحتياج وفق الظروف المناخية، ونحو 63% من كهرباء غزة تستورد من "إسرائيل" والباقي يورد من محطة توليد كهرباء غزة. ويتسبب نقص امداد الكهرباء على الحياة في غزة بخسارة الفلسطيني لنصف يومه مما يقوض تقديم الخدمات العامة الأساسية، بما تشمل من المياه والصحة والصرف الصحي.
ضعف القدرة التنافسية: يواجه الفلسطيني ضعف في القدرة للوصول للأسواق الداخلية والخارجية، بسبب التكاليف الناجمة عن طرق النقل الأطول والأكثر كلفة، وعمليات التفتيش الأمني، والتأخيرات، ورسوم التخزين، ويضاف إلى ذلك الافتقار إلى عملة وطنية واستخدام عمل الشيقل، كما أن التكاليف الإضافية تجعل التجار الفلسطينيين غير قادرة على منافسة "الإسرائيليين" الذين يتمتعون بحرية الوصول إلى الأسواق الفلسطينية وفق بروتوكول باريس الاقتصادي، مما ساعدهم على الاستحواذ على السوق الفلسطينية.
تراجع التصنيع: يؤدي التكيف مع القيود "الإسرائيلية" إلى ترسيخ الاعتماد على الاستيراد والمساعدات ويعزز قطاعاً تصديرياً ضعيفاً يتسم بدرجة مرتفعة من التركيز وانخفاض المحتوى التكنولوجي، ويتسم الهيكل الإنتاجي المشوه الناتج عن ذلك والموجه نحو الداخل بنصيب أكبر لقطاعات السلع غير القابلة للتداول ونصيب أصغر لقطاع السلع القابلة للتداول.
الميزان التجاري: تشكل الضفة الغربية مصدر جميع الصادرات الفلسطينية تقريباً، وقد وصلت صادرات غزة إلى الصفر تقريباً في ظل الحصار، ولا تزال الواردات مرتفعة وتمثل 47% من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2021م، ويجري تمويل معظمها عن طريق التحويلات المالية والمساعدات، والدخل المتولد من العمالة الفلسطينية في "إسرائيل"، ولا تغطي الصادرات سوى ثلث فاتورة الواردات، مما يفسر العجز التجاري المزمن. ولم تنجح جهود الحكومة الفلسطينية لتنويع الشركاء التجاريين رغم الاتفاقات التي تمنح الفلسطينيين وصلاً مميزاً إلى الأسواق الكبيرة، إلا أن الاحتلال كرس التبعية التجارية "لإسرائيل" وحد من إمكانية تطور الصناعات الفلسطينية، كما وضع أمامها العراقيل مما جعلها غير قادرة على المنافسة.
انحسار الزراعة: تراجع نصيب الزراعة من الناتج المحلي من 12.1% في العام 1994م إلى 6.5% في العام 2021م، ويرجع ذلك إلى العقبات التي يضعها الاحتلال أمام تنمية القطاع الزراعي في الضفة الغربية مثل مصادرة الأراضي والمياه، وخاصة في المنطقة ج التي تمثل 60% من مساحة الضفة الغربية وتحتوى على أغنى الأراضي والموارد الطبيعية، كما تسيطر المستوطنات على 85% من الموارد المائية، ويحتجز الجدار العازل 10% من الأراضي الزراعية بين الجدار العازل والخط الأخضر، وفي قطاع غزة يفرض الاحتلال قيوداً على استيراد مدخلات الإنتاج الزراعي والأسمدة، ويعمل على تدمير المنشآت الزراعية والمحاصيل، كما أن المنطقة العازلة الممتدة بعرض يتراوح بين 300 إلى 500 متر تلتهم حوالي 17% من المساحة الكلية للغزة، وتحرم المزارعين من الوصول إلى 35% من الأراضي الزراعية.
توسيع المستوطنات واستمرار هدم الأصول الفلسطينية: على الرغم من قرار مجلس الأمن 2334 الصادر في العام 2016م الذي يعتبر إنشاء المستوطنات انتهاكاً صارخاً، وبحلول نوفمبر 2021م بلغ عدد المستوطنات المعترف بها حوالي 138 مستوطنة و150 بؤرة استيطانية غير معترف بها، وقد بلغ في العام 2021 هدم الأصول الفلسطينية في الضفة الغربية أعلى مستوى له في خمس سنوات، إذ هدم 911 مبنى، ما أدى إلى تشريد 1209 فلسطيني، وجرى هدم 140 من أصول المؤسسات الإنسانية، بما في ذلك مباني سكينة ومعيشية ممولة من الاتحاد الأوروبي أو الدول الأعضاء.
المعاناة المتزايدة في غزة: عمل الاحتلال من خلال الحصار والعدوان المستمر على قطاع غزة منذ العام 2007م على إبقاء معدلات البطالة والفقر في أعلى مستوياتها، من خلال تدمير القاعدة الإنتاجية وترسيخ الاعتماد الكبير لغزة على المساعدات الخارجية وخاصة عبر الأونروا ومؤسسات الأمم المتحدة، ويؤكد التقرير على أنه ما زال 80% من سكان غزة يعتمدون على المساعدات الدولية.
آليات تكيف التي تستخدمها الأسر الفقيرة في غزة: للتعامل مع الفقر تستخدم الأسر المعيشية في غزة آليات مختلفة للتكيف مثل الاقتراض أو بيع الأصول، أو التقليل من الإنفاق على السلع والخدمات، أو تقبل منتجات أقل جودة، كما تجبر الأطفال بعض الأسر الفقيرة أبنائها على العمل من أجل توفير قوت يومها.
تخفيف مجموعة من القيود واستعادة إمدادات الكهرباء المنتظمة ودفع المرتبات بانتظام في غزة: يمكن أن تعزز جميعها القوة الشرائية للأسر الفقيرة بنسبة 55%، وأن تزيد الصادرات بنسبة 625%، وأن تضاعف الواردات، وتزيد الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 39%، ويمكن لهذا الانتعاش في النشاط الاقتصادي أن يقلل من البطالة بنسبة 23%.
جذور الأزمة المالية: من العام 1994م حتى العام 1999م كانت الحكومة الفلسطينية قادرة على موازنة الميزانية، وكانت معظم مساعدات المانحين تهدف إلى تمويل التنمية، ولكن في أعقاب الانتفاضة الثانية سبتمبر 2000م، فرضت "إسرائيل" قيوداً على التنقل والحركة، وعملت على تدمير القطاعات الاقتصادية، وانتقلت الحكومة من الميزانية المتوازنة إلى حالة عجز متكرر، وصل إلى 21% من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2002م.
معضلة بروتوكول باريس الاقتصادي: والذي أنشأ آلية التخليص الجمركي، فتقوم "إسرائيل" بتحصيل الضرائب على الواردات الفلسطينية من "إسرائيل" أو عبرها وبتحويل إيرادات التخليص الجمركي إلى الحكومة الفلسطينية على أساس شهري، مما ترك أكثر من ثلثي الإيرادات المالية الفلسطينية تحت سيطرة الاحتلال، والذي قام في أكثر من مرة بتعليق تحويل الإيرادات أو تطبيق خصومات أحادية الجانب، والتي كان آخرها في يوليو 2018م من خلال سن قانون يخصم مبالغ تعادل ما تقدمه الحكومة الفلسطينية إلى أسر الأسرى أو أسر الشهداء والجرحى وقد بلغت الخصومات 104 مليون دولار في عام 2021م.
الاعتماد على المساعدات: بعد العام 2002م اعتمدت الحكومة الفلسطينية في تمويل الميزانية على المساعدات الخارجية، والتي وصلت في العام 2008م إلى 2 مليار دولار لتمثل 27% من الناتج المحلي الإجمالي، وقد انخفضت هذه المساعدات لتصل إلى 317 مليون دولار في العام 2021م ممثلة 1.8% من الناتج المحلي الإجمالي، وفي الفترة من 2007م حتى 2018م غطى دعم الميزانية 80% من عجز الميزانية المتكرر.
زيادة الاقتراض من البنوك المحلية: مع انخفاض المساعدات الخارجية وزيادة تسرب الموارد المالية الفلسطينية إلى "إسرائيل"، أجبرت الحكومة الفلسطينية على سد الفجوة المالية عن طريق زيادة كبيرة في الاقتراض من المصارف المحلية وتراكم المتأخرات المستحقة للقطاع الخاص المحلي وصندوق المعاشات التقاعدية، وبحلول عام 2021م بلغ الدين العام الإجمالي 3.8 مليار دولار، وبلغ رصيد المتأخرات نحو 3 مليارات دولار، أي أنهما يبلغان معاً 38% من الناتج المحلي الإجمالي. وارتفع الدين المحلي إلى 2.53 مليار دولار، أو 14% من الناتج المحلي الإجمالي، و23% من الائتمان الكلي وكان أعلى من حد ال15% الذي حددته سلطة النقد الدولي.
دين الموظفين العموميين: والذي بلغ تجاه الجهاز المصرفي 1.8 مليار دولار، ما زاد انكشاف النظام تجاه الحكومة وموظفيها، واللذان يبلغ نصيبهما معاً 40% من مجموع الائتمان المصرفي، ويشكل تزايد الدين العام والمتأخرات والمستوى المرتفع لتعرض النظام المصرفي للخطر من حيث التعاملات مع الحكومة وموظفيها إلى مخاطر تسرب عدم الاستقرار إلى باقي الاقتصاد عن طريق مزاحمة القطاع الخاص وتباطؤ النشاط الاقتصادي.
أبرز توصيات التقرير كانت بأن يتحمل المجتمع الدولي مسؤولياته ويقدم دعماً مالياً هادفاً وقابل للتنبؤ به يمكن أن يحافظ على الحد الأدنى من الأوضاع المعيشية اللائقة، والعمل على وقف تسرب الموارد المالية الفلسطينية، والسماح للفلسطينيين بالوصول إلى المنطقة ج ورفع الحصار عن غزة ورفع القيود المفروضة على الأنشطة الإنتاجية في الضفة الغربية هي أمور يمكن أن تقلل من العجز المالي وصولاً إلى الموازنة في الميزانية.